من يقرأ السيرة بعناية يستطيع أن يفهم كثيرا مما يجري الآن من حرب
إعلامية منظمة مدروسة في تشويه صورة الإسلام والمسلمين، وهذا ما
يجعلني أؤكد أنه القديم المتجدد، فالأساليب هي هي, والطرائق هي هي ،
والحقد الدفين هو هو ، والتشويه المتعمد رغم علمهم بالحق هو هو ، ولعل
من البصيرة أن نفهم ما يجري الآن في ضوء ما رواه ابن إسحاق في
السير والمغازي أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش ، وكان ذا
سن فيهم ، وقد حضر الموسم فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر
هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر
صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا
، ويرد ُّقولكم بعضه بعضا ؛ قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس ، فقلْ وأقمْ لنا
رأيا نقول به ؛ قال : بل أنتم فقولوا أسمعْ ؛ قالوا : نقول كاهن ؛ قال : لا
والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه ؛
قالوا : فنقول : مجنون ؛ قال : ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه ،
فما هو بخنقه ، ولا تخالجه ، ولا وسوسته ؛ قالوا : فنقول : شاعر ؛ قال :
ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه
ومبسوطه ، فما هو بالشعر ؛ قالوا : فنقول : ساحر ؛ قال : ما هو بساحر ،
لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم ؛ قالوا : فما نقول يا
أبا عبد شمس قال : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه
لجناة ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عُرف أنه باطل ، وإن أقرب القول
فيه لأن تقولوا ساحر ، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه ،
وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته .فتفرقوا
عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم ، لا يمر بهم
أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا لهم أمره. { سيرة ابن هشام ، ص 239، 240}.
فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة قوله تعالى :" إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ
وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ
هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ" [المدّثر : 18 - 27]
في هذه القصة يبدو ما يلي :-
أ- هناك اجتماعات ومشاورات في أساليب التشويه الإعلامي .
ب- هناك إقرار واعتراف بصحة القرآن وعلو منزلته ، واستحالة بشريته .
ج- هناك إصرار على الكذب وتعاهد على نشره والتأكيد عليه حتى يصير كأنه حقيقة .
د- هناك استعدادات قبل المواسم التي يجتمع فيها الناس للحج ، مثل
الاستعداد الإعلامي قبل رمضان بألوان من الفنون الهابطة لصرف الناس
عن شعائر دينهم، وتلطيخ قلوبهم بأدران الفسوق حتى لا يسلم أحد من هذا التشويه الإعلامي.
مع أن هذا التشويه لم يصمد ، أمام نور الحق ، وقوة القرآن في نفوس
العقلاء من بني الإنسان وإليك بعض هذه القصص التي تجعل الدعاة
الصادقين لا يخشون هذه الحملات الإعلامية ، بل يتقدمون بالحق في
حكمة وقوة وأمل فسيجدون استجابة عالية مثل هاتين القصتين :
1. ما رواه ابن حجر في الإصابة {2/72}عن قصة إسلام الحصين
والد عمران رضي الله عنهما أن قريشا حذرت الحصين وشوهت صورة
النبي ورسالته ، بل أوفدته كي يكلمه أن يدع ما جاء به ، فاستمع إليه
النبي وخاطبه بلغة الوحي والعقل فأسلم الحصين .
ما رواه البخاري من قصة إسلام الطفيل بن عمرو بالغ مشركو قريش في
التشويه الإعلامي والتحذير من أن يسمع الطفيل من النبي ، ووضع
القطن في أذنه حتى لا يسمع ولو عَرضاً ، لكنه رأى النبي في الحِجر
يتلو القرآن، فجلس واستمع فأسلم على الفور وأتى بعد ذلك بقبيلته كلها مسلمين.
هاتان القصتان تبينان الأثر العكسي الذي ينتجه التشويه الإعلامي ، من
حب استطلاع لدى كل ذكي ألمعي عندما يجد بين طيات الكلام فجوات
عقلية ، ومسافات غير منطقية ، فيسترعي انتباهه، ثم يأتي إلى الحقيقة
بنفسه يتعلمها يفهمها، ولذا كانت أكبر حملة ضد الإسلام في الشرق
والغرب بعد أحداث سبتمبر سببا في الإقبال الشديد على الإسلام من عقلاء
الأمريكان والأوربيين بعد أحداث سبتمبر 2001 ، واعترفت الصحافة
الأمريكية ومراكز الأبحاث ، والتحليلات السياسية أن أكبر فترة دخل فيها
الأمريكان الإسلام هي ما بعد أحداث سبتمبر 2001 ، وهذا مما يضاعف
الأمل في قوله تعالى :" كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ
جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ "[الرعد : 17] .
الدرس التربوي هنا هو الأمل الدائم أن الله ناصرٌ دينه ، وخاذل أعداءه ،
والدرس الدعوي أن نبادر في نشر الدعوة ، والحوار مع الغير، والحضور
الإسلامي في تجمعات الناس ، والتقدم إليهم برسالة الإسلام في هدوء
وحكمة مثلما كان هدي النبي في حواره مع الحصين وطفيل بن عمرو،
وحوار الإمام علي مع أبي ذر ، كان هذا سببا ليس في إسلام هؤلاء
فقط ، بل كلٌ أتي بقومه ، بل دعا جيرانهم من قبائل مجاورة ، فكان سببا
في فتح كبير للإسلام .