يذكر ابن القيم في زاد المعاد، وابن هشام في سيرته، والطبري في تاريخه
أن النبي بدأ الدعوة إلى الله سرا ثلاث سنوات وكان من أول من أسلموا
السيدة خديجة وسيدنا علي وبنات النبي ، وزيد بن حارثة ، وأبوبكر
وبلال بن رباح ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وأبو سلمة ، والأرقم بن أبي
الأرقم ، وعثمان بن مظعون، وعبدالرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام ،
وطلحة بن عبيد الله ، ونزل الأمر في قوله تعالى : "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ
الْأَقْرَبِينَ" [الشعراء : 214] فصعد النبي جبل الصفا ونادى أهله
وعشيرته وأخبرهم بالنبوة والرسالة، ودعاهم إلى الإسلام كما روى مسلم
بسنده عن ابن عباس فعارضه عمه أبو لهب مع قومه بشدة، وكانت هناك
مساندة نبيلة، ومروءة نادرة من عمه أبي طالب،حيث طمأنه أنه لا يزال
يحوطه ويمنعه من أذى قومه كما ذكر ابن الأثير في الكامل (1/584) .
بعدها بدأت المواجهة خاصة بعد إسلام عمه حمزة وعمر بن الخطاب،
وصارت هناك اجتماعات لمجالس شورى قريش وعشائرها وقبائلها،
وكانت هناك ألوان من الإغراء أهمها ما يلي :-
1. الإغواء بالدخول إلى الإسلام بشرط تغيير بعض الأحكام
أورد الإمام الطبري، وابن كثير والقرطبي وغيرهم أن سبب نزول الآية
:"وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا
تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن
وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ " [الكهف : 28 -29] ، أن قوما من كفار قريش عرضوا
على النبي أن يُسلموا بشرط أن يجلس معهم وحده ولا يجالسهم بالفقراء
والضعفاء والعبيد كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود ، وأن يجعل
لكلٍ مجلسا، واحداً للأشراف والأغنياء والسادة وآخر للضعاف والفقراء
والعبيد؛ فأنزل الله هذه الآيات الداعية إلى أن يصبر النبي مع أي أحد
فيه هذه الصفات، بل أمره الله بملازمتهم دائما في قوله تعالى
:"ولاتعدعيناك عنهم" ونهاه أن يطيع أهل الأهواء الذين يريدون دينا
مفصَّلا على أهوائهم ورغباتهم ومطامعهم حيث قال سبحانه :"ولا تطع من
أغفلنا قلبه عن ّكرنا " وأمره بيان الحق :"وقل الحق من ربكم" ولا يلوي
على أحد أعرض عنه :"فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " .
هذا الإغراء قد يبدو في أول الأمر قابلا للنظر أن يكون هناك استقطاب
لهؤلاء الشرفاء والأغنياء في مجلس خاص، بعيدا عن الضعفاء والفقراء ثم
نعلّم هؤلاء الإسلام الصحيح ثم نجمعهم جميعا في مجلس أو مصلى واحد،
هذا الإغراء قد ينخدع به بعض الدعاة عندما يقدِّمون تنازلات عن أحكام
ثابتة في دينهم فيتساهلون في الأحكام لقوم لعلو منزلتهم الاجتماعية، وهذا
الأمر يحتاج إلى صبر الداعية الرباني الذي لا يقدّر الناس إلا بمعيار
القرآن الكريم قال تعالى : "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"
[الحجرات : 13] ، ومعيار السنة النبوية كما ذكر مسلم في صحيحه عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللّهِ قَالَ: «رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ
عَلَىٰ اللّهِ لأَبَرَّهُ».{صحيح مسلم ، باب فضل الضعفاء والخاملين، (16 /149 )،الحديث رقم 6634}
إذن لا بد للدعاة ألا يصغوا إلى صوت الهوى ـ وإن بدا أنه هوى دعوي ـ
أن نستميل علية القوم بالتنازلات في أول الأمر حتى نجذبهم إلى الإسلام
، حيث حسم الله الإغراء المبني على الهوى بقوله تعالى: "وَقُلِ الْحَقُّ مِن
رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ " [الكهف : 29] . بعد أن حدث
نفسه أن يفعل لكن الله تعالى أدركه فامتثل لأمره سبحانه كما يروي الإمام
مسلم بسنده عن سعد بن أبي وقاص قال: كنَّا معَ النبيّ ستَّة نفرٍ ، فقال
المشركون للنبي: اطرد هؤلاءِ لا يجترئون علينا. قال: وكنت أنا وابنُ
مسعود ورجلٌ من هُذَيْل، وبلالٌ ورجلانِ لست أسميهما، فوقعَ في نفسِ
رسولِ اللَّهِ ما شاء الله أن يقع، فحدَّثَ نفسه، فأنزلَ الله تعالى "وَلاَ تَطْرُدِ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن
شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ"
[الأنعام : 52] "{مشكاة المصابيح ، للتبريزي، (10 /572 )، برقم 6202} ، وصار صبر النبي مع هؤلاء المؤمنين الضعفاء مثالا يحتذي
، فيروي الإمام جلال الدين السيوطي في جامع المسانيد والمراسيل عن
النبي «لأَنْ أُجَالِسَ قَوْماً يَذْكُرُونَ اللَّهَ مِنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ » {جامع المسانيد والمراسيل ، الجلال
السيوطي ، (6/ 14 ) برقم 16898}
والحق أننا بحاجة إلى هذا الصبر أمام فتن الإغواء أن نتنازل عن بعض
أحكام الإسلام لجذب قوم ممن يترفعون عن اللين والتواضع مع البسطاء،
لكن هذا لا يعني أن يخص الداعية جهده للبسطاء الفقراء ، بل يجب أن
يبسط دعوته لكل من حوله غنيا أو فقيرا، شريفا أو وضيعاً ، صغيرا أو
كبيرا ، متعلما أو جاهلا ، رجلا أو امرأة، فمن استجاب منهم إلى داعي الله
صبر معهم حتى يلقي الله بهذا الرباط الإيماني القوي ، قال تعالى :" ِإنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [الحجرات : 10]