يصاب الإنسان بأسىً شديد عندما يكون حول الكعبة 360 صنما يُعبد من
دون الله عز وجل، و يسمح بالطواف للعرايا رجالا ، بل حتى النساء ،
وتنشد شعرا كما أورده البخاري في صحيحه والطبري في تفسيره تقول
فيه:-
اليوم يبدو كله أو بعضه فما يبدو منه فلا أحله
وأمام الكعبة بيوت للدعارة عليها رايات حمراء لا ترد المرأة رجلا يدخل
عليها ، وحانات للخمور من بلاد شتى، وأشعار تتغنى بهذه الألوان من
الفجور ، ومن بين هذا كله لا يؤذن للمسلمين الجدد أن يُصلُّوا لله تعالى
وفق دينهم الجديد ، ولا أن يقرأوا القرآن حول الكعبة وفي ذلك يروي ابن
هشام في سيرته أن سبب اتخاذ دار الأرقم بن أبي الأرقم مقرا لقيادة
الرسول كان بعد المواجهة الأولى التي برز فيها سعد بن أبي وقاص
قال ابن إسحاق : وكان أصحاب رسول الله إذا صلوا ذهبوا في الشعاب،
فاستخفوا بصلاتهم من قومهم . فبينما سعد بن أبي وقاص في نفر من
أصحاب رسول الله في شعب من شعاب مكة إذ ظهر عليه نفر من
المشركين وهم يصلون، فناكروهم، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى
قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين بلحي بعير
فشجَّه، فكان أول دم أريق في الإسلام .
أصبحت دار الأرقم السرية مركزاً جديداً للدعوة يتجمع فيه المسلمون،
ويتلقون عن رسول الله كل جديد الوحي ، ويستمعون له وهو يذكرهم
بالله، ويتلو عليهم القرآن ، ويضعون بين يديه كل ما في نفوسهم وواقعهم
فيربيهم على عينه كما تربّى هو على عين الله عز وجل وأصبح هذا
الجمع هو قرة عين النبي . {السيرة النبوية، ص 125 ، 126}
هذه عين الحكمة ألا يصادموا التيار العام، وإنما يتخذون من الوسائل التي
تنزع فتيل الشقاق والخلاف، والنزاع والصدام، فتخفى رسول الله حتى
لا يبدأ دعوته الراشدة بالصدام مع ذوي الهوى، والنزاع مع ذوي السلطة ،
وكانت هذه الدار لتربية الأفذاذ من الرجال والنساء، الشباب والفتيات، على
نسمات الوحي، وصلوات السحر ، وأنوار الذكر ، وأنهار الفكر في هذا
الكون الذي يعبر عن قوة خالقه ، وإحكام مسيّره، وإبداع مالكه سبحانه وتعالى .
لكن أصحاب الحق يحتاجون في ذلك إلى صبر شديد، حيث يؤرق القلب
والعقل والوجدان أن يتاح في مكة وبيت الله الحرام كل ألوان الكفر
والفسوق والعصيان، ولا يتاح لعباد الرحمن أن تكون لهم صلوات حول
الكعبة أو قراءة للقرآن ، وإذا أردنا أن نعرف الفرق بين حرية الكفر
وحرية أهل الإيمان فلنتوقف بإمعان وتدبر أمام هاتين القضيتين :-
أ- ما رواه الإمام النسائي من سيرة عبدالله بن مسعود أنه لما قرأ
عند الكعبة سورة الرحمن أوسعوه ضربا حتى كادوا يقتلونه لمجرد تلاوته
لآيات من القرآن ، وهو لا يحمل معها سيفا ولا رمحا {فضائل الصحابة ، للنسائي ، (2/837 )}
ب- ما رواه البخاري عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما، عن إسلام أبي
ذر أنه وصل رسول الله بصعوبة ، وبفراسة من الإمام الألمعي علي
بن أبي طالب ، وسار معه في وضع خفي، ولما أعلن إسلامه أمام أهل
قريش هجموا عليه وضربوه ضربا مبرحا حتى نجا من الموت بمساعدة
العباس بن عبد المطلب ، حيث خوفهم على تجارتهم من بني غفار.{
صحيح البخاري، باب قصة زمزم، (7 /239) ، برقم 3446}
فهذه الأجواء التي تسمح بكل هذه الألوان من الفجور، لا تسمح لوافد إلى
مكة أن يعرف حقيقة هذا الدين، ولولا هذا الذكاء الحاد، والحس المرهف
من الإمام على لعاد أبو ذر مثل أخيه لا يجد ما يشفي غليله عن هذا
الدين الجديد، وما إن أسلم حتى أعلن إسلامه على الملأ فقاموا يضربونه
ضربا مبرحا لمجرد أن يوجد بين هذه الآلاف الساجدين للأصنام رجل
يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ولم يحمل سيفا ، ولم يؤذ أحداً، ولكن
كان هذا سببا كافيا في ضربه وإيذائه حتى كادوا يقتلونه لولا حماية العباس
له وانكفاؤه عليه، وتخويفهم من بني غفار على طريق تجارتهم أن
يثأروا لابن عشيرتهم أبي ذر الغفاري .