وبناء على ما قرره شيخ الإسلام فلا يحق لأي فرد أن يتهاون في طلب العلم الشرعي والحرص عليه وخاصة في مثل هذه الأيام التي بعد الناس فيها عن العلماء ومجالسهم وانشغلوا بملذات الحياة وشهواتها ، كما أن مناهج ومقررات التربية والتعليم ليست كافية ومؤدية للدور المطلوب منها في ظل مستجدات الحياة
والباحث لا ينكر الدور الذي تؤديه بعض المؤسسات التعليمية ولكن الحق أنه ما يزال يعتريها النقص والقصور ، وليس أدل على ذلك من أن كثيرا من مسائل الصلاة التي يؤديها كل مسلم خمس مرات على الأقل كل يوم تغيب عن أذهان خريجي المدارس والجامعات فضلا عن غير المتعلمين ، وتجد بعض أصحاب الشهادات العليا لا يعرف كيف يغتسل من الجنابة ولا يدري أن من اعتنق غير الإسلام دينا فهو من الخالدين المخلدين في نار جهنم ، وقل مثل ذلك عن الجهل بحقوق الجيران والأقارب وأمور البيع والشراء التي تهم كل مكلف ولا يعذر بالجهل فيه أحد إلا بعذر شرعي ، وقد يقول قائل أن هذه الأمور يعذر بالجهل بها فنرد عليه بأن العلماء قي القديم والحديث ناقشوا هذه المسالة وأوسعوها بحثا ، ولأن المجال ليس مناسبا لسردها فتراجع في مظانها ، ولكن لا بأس أن نشير إلى رسالة بعنوان : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، تقدم بها الشيخ صالح بن حميد لنيل درجة الدكتوراه من كلية الشريعة بجامعة أم القرى ، حيث استعرض فضيلته ما ذكره العلماء في حكم الجهل بما يعذر فيه وما لا يعذر فيه ، ثم استخلص الأمور التالية (1):
أ ـ الجهل بأصول الدين أي أمور التوحيد والعقائد لا يعتبر عذرا بأي حال كما لا يقبل الادعاء به
ب ـ الجهل بضروريات الدين من صلاة وزكاة وصيام وحج غير مقبول أبدا ، ويدخل في ذلك بعض الأركان والشروط والواجبات لبعض العبادات لأن المسلم المكلف مهما قلت درجته العلمية مطالب بالإتيان بها في أوقاتها وعلى صفتها الشرعية ، وكذلك المحرمات المشهورة لدى عامة المسلمين كقتل النفس والخمر والربا والزنا
ج ـ يعذر بالجهل ويقبل ادعاؤه إذ نشأ المسلم في دار حرب ولم يعلم حكم ما أقدم عليه أو امتنع عنه
د ـ يعذر بالجهل إذا كان المسلم حديث عهد بالإسلام
ه ـ يقبل الجهل ويكون عذرا في حق العامة إذا كان واقعا في أحكام لا يعلمها إلا العلماء
لذا فينبغي على الفرد المسلم أن يتجنب هذه المزلة الدحضة التي وقع فيها كثير من الناس ، فيحرص على طلب العلم الشرعي والاستزادة منه أيا كان تخصصه وأيا كان مجاله ، وخاصة في الأمور التي يحتاجها الفرد سواء في مهنته أو في منزله ، وبذا يرتبط قلب المسلم بدينه ولا ينسى انتماءه وولاءه لهذا الدين
إن الاهتمام بحرية العلم في التربية الإسلامية وما يتعلق بها من قواعد سيكون له أثره الفعال في تربية النفس وتنميتها لتكون قوة فعالة ولبنة راسخة لبناء مجتمع إسلامي معتز بدينه مفتخر بعقيدته له دوره في تغيير مجريات الأحداث في العالم المعاصر .
المبحث الثاني
المسئولية والجزاء
أولا : المسئولية
يقصد الباحث بالمسئولية : المسئولية الشخصية أي فردية التبعة أو تحمل الجزاء الحاصل نتيجة العمل الذي قام به الفرد أو كلف به ، أي إنها تعني ترتب الجزاء من الله تعالى على ما يأتي به المكلف من أعمال أو أقوال أو نيات باختياره سواء ألزم بها شرعا أو التزم بها بمقتضى الشرع ، ولها أركان ثلاثة هي :
الأول : السائل وهو الله عز وجل المالك القادر على الجزاء
الثاني : المسئول وهو البالغ العاقل المبلغ على لسان الرسل
الثالث : المسئول عنه وهي التعاليم المبلغة وهي شريعة الله التي ارتضى لعباده (1) .
وتؤكد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على المسئولية الشخصية للأفراد ، يقول تعالى : { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما * ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما } [ النساء : 110 ، 111 ] فالآية الأولى تبين المسئولية الشخصية لما يفعله المرء في حق نفسه ، والآية الثانية تقرر الجزاء الفردي الذي يناله من قام بالعمل ولا يسأل عنه غيره ، كما قال تعالى : { قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون } { سبأ : 25 ] .
وتتضمن المسئولية أيضا ما يفعله الإنسان من الخير والهدى أو الشر والضلال ، قال تعالى : { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } [ الإسراء : 15 ] يقول سيد قطب - رحمه الله - فهي التبعة الفردية التي تربط كل إنسان بنفسه إن اهتدى فلها وإن ضل فعليها ، وما من نفس تحمل وزر أخرى ، وما من أحد يخفف حمل أخيه ، إنما يسأل كل عن عمله ويجزى كل بعمله ولا يسأل حميم حميما (2)
ويعرض لنا القرآن الكريم صورا شتى لتقرير هذا المبدأ فيذكر لنا موقف امرأة نوح وكذلك امرأة لوط اللتين لم توافقا زوجيهما النبيين على الإيمان ولا صدقاهما على الرسالة فلم يجد ذلك كله شيئا ولا دفع عنهما محذورا أو رد عذابا في النار ، وفي المقابل تبرز لنا صورة امرأة فرعون المؤمنة التي ما ضرها كفر زوجها حين أطاعت ربها وآمنت به
قال تعالى : { ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين ، وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين }[ التحريم : 10 ـ11]
ومن خلال هذه الحقيقة يقرر المرء الحياة التي يريد أن يحياها والطريق الذي سيختاره لنفسه والمصير الذي سيؤول إليه كل فرد يضع نفسه حيث يريد هو ، يكرمها أو يهينها ، يرفعها أو يضعها ، قال تعالى { لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ، كل نفس بما كسبت رهينة }[ المدثر : 37 ، 38 ]
والخطاب واضح والبيان ناصع في الحث على تربية الذات والسمو بالشخصية إلى المراتب العليا وذلك بالاستعداد لهذه المسئولية التي سيواجهها كل فرد حيث تبدأ مسئولية كل فرد في هذه الحياة منذ بلوغه سن التكليف وتنتهي بمفارقته لها ، ولكل مسئوليته الخاصة به .
عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، فالإمام الأعظم الذي على الناس راع ومسئول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته ، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وهي مسئولة عنهم ، وعبد الرجل راع على كل مال سيده وهو مسئول عنه ، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته [ البخاري : 4 /328 ]
كل فرد في المجتمع الإسلامي له رعية يرعاها ، وبغض النظر عن موقعه فيه في القمة أو في القاع ، وسواء كان رجلا أو امرأة ، حرا أو عبدا ، مهما اختلفت الظروف والأحوال فإنه مسئول عن رعيته ، يوضح هذا المعنى محمد بن عبد الله دراز فيقول (1):
والحق أن هذه الظروف لا تتخلف أبدا فلكل منا بالضرورة بعض العلاقات وهو يشغل مكانا معينا ويمارس بعض الوظائف في جهاز المجتمع ، فالأب مسئول عن رفاهية أولاده ـ المادية والأخلاقية ـ والمربي مسئول عن الثقافة الأخلاقية والعقلية للشباب والعامل عن تنفيذ عمله وكماله ، والقاضي عن توزيع العدالة والشرطي عن الأمن العام والجندي عن حفظ الوطن ، كذلك نحن ـ فرادى ـ مسئولون عن طهارة قلوبنا واستقامة أفكارنا ، كما أننا مسئولون عن حماية صحتنا وحياتنا ، حتى أننا نستطيع أن نجد في كل لحظة من لحظات الحياة الإنسانية بعض المسئوليات وهي ليست افتراضية فحسب بل حاضرة وواقعية متى تحققت لها الشروط العامة ، ثم إن اختلاف المواقف لا يتدخل إلا من أجل تخصيص وتحديد موضوع هذه المسئولية
وإنما يزيد هذه المسئولية خطورة وأهمية قوله صلى الله عليه وسلم : ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة [ مسلم : 1/125 ]وفي رواية : ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة [البخاري : 4 /331 ]
وفي رواية لمسلم : ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجتهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة [ أبو داود : 3 / 356 ]
وقال أيضا عليه السلام : من ولاه الله عز وجل شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره [ أبو داود :3 /356
ألا فليتفكر في هذه النصوص كل المربين والعلماء والحكام وغيرهم من الرعاة فإن التبعة كبيرة والحساب عسير . صحيح أن الجزاء يوم القيامة ولكن لا يغيب عن البال أن المسئولية تبدأ من الحياة الدنيا دار العمل والكسب ، فهل أدى كل فرد ما يترتب عليه من واجبات تجاه الأمانة التي كلف بها ، إن إجابة أي فرد لنفسه عن هذا السؤال تتطلب التجرد والنزاهة ، فلا داعي لجلب الأعذار وتبرير الأخطاء أو انتحال المغالطات النفسية والحيل اللاشعورية ، فاليوم دار عمل ولا حساب وغدا دار حساب ولا عمل
إن شعور الفرد بهذه المسئولية يدفعه للعمل بدون توان ولا ملل ويراعى في هذه المسئولية هل حفظ الأمانة كما ينبغي أم ضيع وفرط ، وإن أولى الناس بالمحاسبة والمراقبة نفسه التي بين جنبيه فيراجعها الفينة بعد الأخرى ويسائلها قبل أن تسأل
كما أن مسئولية الفرد عمن يعول يشعره بالتبعة الشاقة فيتعاهدها بالرعاية والعناية ويراقب الله في هذه الأمانة عملا بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد }[ التحريم :6 ]
ثانيا : الجزاء
وبنهاية هذه الحياة الدنيا تأتي فترة البرزخ وهي الفترة التي يقضيها الإنسان بعد مماته في القبر وقبل يوم الحشر ، قال تعالى : { كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } [ آل عمران : 185 ]
وقال أيضا : { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة } [ النساء : 78 ]
يعتقد المسلم اعتقادا جازما أن الموت باب وكل الناس داخله ، والبرزخ دار كل الناس سيزورها وسيقضي فيها فترة الله أعلم بها ، ثم يكون المحشر للسؤال عن الأعمال وللفصل بين العباد . وفي البرزخ يحيا الفرد حياة الله أعلم بها ، لا أب ولا أم ولا أصحاب ولا أتباع ولا خدم ولا حشم ، تكون مساءلة ويكون حساب
: { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء } [ إبراهيم : 27 ] .
روى أبو جعفر النحاس - رحمه الله - في معنى هذه الآية فقال : قال البراء بن عازب وأبو هريرة : هذا عند المساءلة إذا صار في القبر (1)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال : استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل . [ أبو داود : 3/550 ]
وعن البراء - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة . [ البخاري : 3/247 ] .
كما روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم ، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله تعالى به مقعدا من الجنة فيراهما جميعا . وأما المنافق والكافر فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال له : لا دريت ولا تليت ، ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين . [ البخاري : 1/422 ] .