يرى التربويون أن العملية التعليمية ( تعلما وتعليما ) تتكون من ثلاث عناصر هي : المدرس والمنهج والتلميذ ، ومما لا شك فيه أن للمدرس دورا كبيرا في تنشئة الأفراد وإصلاح المجتمعات ، إلا أن هناك أسلوبا آخر لتلقي التربية وتشرب المعرفة من دون المدرس ، وهو ما يعرف بالتربية الذاتية أو التلقائية ، حيث يربي الفرد نفسه ويوجهها وجهة سليمة بما يوافق الغاية التي من أجلها أوجده الله عز وجل على هذه البسيطة وصيره فيها خليفة .
ولذا فإن للفرد مسئولية عظمى تجاه نفسه وتربيتها سواء كان ذلك على مقاعد الدراسة أو في العمل أو في البيت أو في الشارع ، فهو مطالب ببلوغ الكمال البشري الذي ينبغي أن ينشده كل إنسان بلغ مرحلة الرشد والتكليف ، ولن يتأتى له ذلك إلا باتباع المنهج الإلهي ، قال تعالى :( قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ( [ الأنعام : 162 ، 163 ]
وإن الناظر والمتدبر لآيات الكتاب وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ليهتدي إلى أساليب متعددة لتربية النفوس وتهذيب الأفئدة ومنها :
1ـ التربية بالقصة .
3ـ التربية بالموعظة .
5ـ التربية بالعادة .
2ـ التربية بالقدوة .
4ـ التربية بالترغيب والترهيب .
6ـ التربية بالعقوبة .
وغيرها كثير .
وقد جاء هذا التنوع في الأسلوب تبعا لطبيعة المجال والموقف الذي تبحثه ، فهناك التربية الجسدية والتربية الفكرية والتربية المهنية والتربية الروحية والنفسية وغيرها ، ولو أردنا أن نجمع بين أنواع التربية وأساليبها لتبين لنا أن موضوع التربية يركز على الفرد قلبا وقالبا ، ولذا كان لزاما على هذا الفرد أن يسعى بنفسه لتحقيق أهداف التربية الإسلامية وفي مقدمتها تحقيق العبودية لله عز وجل . وبناء على ذلك فسوف تهتم هذه الدراسة بالتربية الذاتية ، أي التربية التي تنبع من ذات الشخص أي من نفسه لتحقيق ذلك الهدف ، كما أنها سوف توضح بعضا من مبادئ وأساليب التربية الذاتية المختلفة الواردة في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
أهمية الموضوع :
تبذل المجتمعات قصارى جهودها من أجل إصلاح أفرادها وتهذيب سلوكهم ، ومما ينبغي أن يصاحب هذه الجهود شعور الأفراد بذلك حتى يندفعوا من تلقاء ذواتهم إلى إصلاح أنفسهم وتربيتها مما يسهل وييسر مهمة التربية التي تسعى لإعداد الإنسان الصالح ، ولذا فإن أهمية البحث ترجع إلى أنه :
1ـ يبين عظم المسئولية الملقاة على عاتق الفرد في تربية نفسه وتوجيهها وإصلاحها .
2ـ يضع لبنة قوية في سبيل إصلاح المجتمع حيث إنه إذا أصلح كل فرد نفسه وربى ذاته تخلص المجتمع من الأمراض والانحرافات واتجه للبناء والإصلاح .
3ـ ينير الطريق أمام المؤسسات التربوية في كيفية توجيه الأفراد لتحقيق الغايات والأهداف التي تتوخاها المؤسسات التربوية لتربية الفرد .
4ـ يوضح أسلوبا مهما من أساليب التربية وله دور كبير في إصلاح النفوس ، إلا أنه أغفل في البحوث التربوية .
5ـ يبين أيضا أحد أساليب التقويم المهمة ألا وهو ما يعر ف بالتقويم الذاتي والتي تسعى التربية الحديثة إلى تطبيقها ، في حين أن الإسلام عرض لها منذ خمسة عشر قرنا .
الفصل الأول
مكانة الإنسان في التصور الإسلامي
مقدمة
الإنسان ، ما الإنسان ؟ ما أدراك ما الإنسان ؟! إنه ذلك الكائن المتفرد الذي خلقه الله عز وجل لحكمة أرادها ولمهمة اختاره لها بعد أن فضله على بقية الكائنات . قال تعالى : ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ( [ الإسراء : 70 ] .
وقد أوضح لنا المنهج الإسلامي ما يحتاج أن يعرفه الإنسان عن نفسه ، فبين أيدينا نحن المسلمين مصدر أصيل ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ( [ فصلت : 42 ] ، منه نصدر ومنه نورد في كل حال وفي أي وقت . فمنه يستقي الفرد المسلم تصوراته وآرائه لنفسه ولما حوله من موجودات فيهتدي إلى الصواب ويحظى برضى رب الأرباب . وسنتحدث في هذا المبحث ـ إن شاء الله ـ عن نشأة الإنسان وغايته ومصيره .
إن قصة الإنسان منذ بدئه حتى منتهاه تظهر بجلاء ووضوح في قوله تعالى : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين * وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ( [ البقرة : 30 - 35 ]
ويبين ذلك أيضا ما ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث عظيم جامع لأحوال الإنسان بدءا بخلقه في بطن أمه وبيان حاله في هذه الدنيا وانتهاء بمصيره ، فعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال : إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها . [ مسلم : 4/2036 ]
هذا هو الإنسان وهذه هي قصة نشأته والغاية من وجوده والمصير الذي سيؤول إليه ، وسنوضح بيان ذلك بشيء من التفصيل .
أولا : النشأة
قال تعالى : ( إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ( [ ص : 71 ، 72 ]
فالإنسان : قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله ، قبضة من طين الأرض تتمثل في حقيقة الجسد : عضلاته ووشائجه وأحشائه ... ، ونفخة من روح الله تتمثل في الجانب الروحي للإنسان ، تتمثل في الوعي والإدراك والإرادة ، تتمثل في كل القيم والمعنويات التي يمارسها (1)
وقد أبدعه البارئ المصور على غير مثال سابق وخلقه على صورته ، قال تعالى : ( الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك ( [ الانفطار 7 ، 8 ]
وقال تعالى : ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ( [ التين : 4 ] فجعله في أحسن صورة وشكل ، منتصب القامة سوي الأعضاء وحسنها . ويقول الرفاعي : ولو شاء تعالى لكان في صورة قرد أو خنزير أو كلب أو حمار ، والله عز وجل قادر على ذلك(2)
فتلك كانت البداية وهذه هي الخلقة كما صورها القرآن الكريم ، ولنر كيف يشطح الفكر بعيدا إذا لم يكن له منج رباني يسير على نوره ويهتدي بهديه .
لقد زعم بعضهم أن الإنسان سليل القرود وأنه تطور عبر الأزمان والعصور حتى وصل إلى هذه الصورة التي نراها اليوم . وقد افتريت هذه الفرية من أجل أن يقال : إن هذا الإنسان مثله مثل سائر الأنواع التي لابد أنها قد انحدرت من نوع مختلف سابق في الوجود [size=25]... ، ومن ثم فلابد أن الإنسان قد ظهر على الأرض نتيجة تطور سلسلة مجاورة من سلاسل مملكة الحيوان (1)
لا شك أن هذه النظرة المنحرفة تجعل كل متمسك بدين يقف حائرا أمام معتقداته ، ويتردد في الاحتفاظ بها والدفاع عنها ، بل يشجعه ذلك على التخلي عنها ، وقد حصل هذا فعلا حينما أعلن دارون نظريته الملحدة في أوروبا وقرر حيوانية الإنسان فزادت الفجوة بين الشعوب البائسة والكنيسة المتسلطة على رقابهم ، ومن ثم تركوا الدين أو بقايا الدين الذي كانوا يعرفونه . يقول الشيخ محمد قطب : ولعل أكبر زلزلة أصابت الكنيسة كانت على يد دارون حين نادى بنظريته أصل الأنواع ، وتتالت الضربات بعد ذلك على أيدي العلماء والباحثين فترنحت هيبة الكنيسة وأخذت تتهاوى ... ، ولكن أوروبا حين نزعت عنها سلطان الكنيسة لم تكتف بذلك بل نزعت عنها سلطان الدين أيضا ، إذ كان الدين لديها ممثلا في الكنيسة مجسما فيها ، وأغراهم بهذا أن في العقيدة المسيحية كما صورتها الكنيسة لا كما أنزلتها السماء كثيرا مما يناقض العقل ويثقل الأفهام (2)
إن أي إنسان يشغل ذهنه ويعمل فكره فيما ليس من قدرات عقله من أمور الغيب فإنه حتما سينقلب خاسئا وهو حسير أو على الأقل سيأتي بالعجائب والترهات كما حصل من دارون وفرويد ودوركايم وغيرهم .
لنرجع ونتدبر كتاب ربنا ونتأمل كيف ينشأ الإنسان ، وما هي الأطوار التي يمر بها في بطن أمه فيخرج سوي الأعضاء كاملها ، يقول تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ( [ المؤمنون : 12-14 ] . ونحن لا نملك إلا أن نقول : سبحان الخالق المبدع المصور الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى . يقول سيد قطب : لقد نشأ الجنس الإنساني من سلالة من طين ، فأما تكرار أفراده بعد ذلك وتكاثرهم فقد جرت سنة الله أن يكون عن طريق نقطة مائية تخرج من صلب رجل فتستقر في رحم امرأة ، لا بل خلية واحدة من عشرات الألوف من الخلايا الكامنة من تلك النقطة ، تستقر في قرار مكين ثابتة في الرحم الغائرة بين عظام الحوض المحمية من التأثر باهتزازات الجسم [size=25]... ، ومن النطفة إلى العلقة حينما تمتزج خلية الذكر ببويضة الأنثى وتعلق هذه بجدار الرحم نقطة صغيرة في أول الأمر تتغذى بدم الأم ، ومن العلقة إلى المضغة حينما تكبر تلك النقطة العالقة وتتحول إلى دم غليظ مختلط ، وتمضي هذه الخليقة في ذلك الخط الذي لا ينحرف ولا يتحول ولا تتوانى حركته المنظمة الرتيبة ... ، حتى تجيء مرحلة العظام ... ، فمرحلة كسوة العظام باللحم ... ، ثم يتحول إلى تلك الخليقة المتميزة المستعدة للارتقاء . (1)
لقد مر خلق الإنسان بمراحل متعددة ، فهو أصلا من طين ، وبالتقاء الذكر والأنثى تكون النطفة ، ومن النطفة تخلق العلقة فالمضغة فالعظام ، ثم تكسى العظام باللحم ويتكون الجنين ، كل ذلك يتم بتقدير العليم الحكيم ، وهذه الحقائق أخبر بها القرآن منذ خمسة عشر قرنا وكفانا مؤونة البحث عنها والتفكير فيها ، ومما يزيد الفرد المؤمن يقينا وثباتا واعتزازا بدينه أن العلم لم يكتشف هذه الحقائق إلا في العصر الحاضر .
يقول الدكتور بوكاي : وكل هذه الآيات تتفق وحقائق اليوم الثابتة . ولكن كيف تسنى للرجال الذين عاشوا في عهد محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون لديهم هذه التفاصيل الكثيرة والدقيقة في علم الأجنة ؟! إن هذه الحقائق لم تكتشف إلا بعد مرور ألف عام تقريبا على نزول القرآن ، ويقودنا تاريخ العلوم إلى أن نجزم بعدم وجود أي تعليل أو تبرير بشري لوجود هذه الآيات في القرآن . (2)
ثانيا : الغاية
لم يخلق الله عز وجل الإنسان عبثا ولم يتركه هملا ، فبعد أن سواه ونفخ فيه من روحه أسجد له ملائكته المقربين ، ثم أهبطه إلى الأرض مع الجان ليكون الابتلاء والامتحان ، واستخلف في الأرض ليعمرها بطاعته . يقول الدوسري رحمه الله : والخليفة لله في أرضه هو المكلف بأحكام يطبقها على نفسه وينفذها على غيره . (1)
وقد أخذ ربنا العهد على الإنسان أن يعبده ولا يشرك به شيئا ، قال تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } [ الأعراف : 172 ] أورد ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما خلق الله آدم مسح على ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة . (2)
ويقول الرفاعي : وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم . (3)
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به . قال : فيقول : نعم . فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي . [ أحمد : 3/127 ]
[/size][/size]