وإذا تتبعنا السيرة النبوية نجد أمثلة كثيرة لاجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام منها :
1ـ قبوله عليه السلام للفداء من أسرى بدر فأنزل الله معاتبا إياه على ذلك قال تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } [ الأنفال : 67] فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في قضية أسرى بدر . [ مسلم : 3 /1385 ]
2ـ ما وقع منه عليه السلام من الإذن للمعتذرين أن يتخلفوا عن غزوة تبوك فأنزل الله معاتبا : { عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين } [ التوبة : 44 ] وهنا يعاتب الله نبيه في اجتهاده في الحكم على المتخلفين عن غزوة تبوك .
3ـ قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ، فصلى بعضهم في الطريق اجتهادا منهم ولم يصل البعض الآخر حتى وصلوا إلى بني قريظة ولم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا منهم لاجتهاده . [ مسلم : 3 / 1391 ]
4ـ قصة بعث معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ إلى اليمن ولما سأله عليه السلام بم تحكم قال : بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد ، قال : بسنة رسول الله ، قال : فإن لم تجد ، قال : أجتهد رأيي ولا آلو ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله . [ أبو داود : 4 /19 وأخرجه الترمذي وقال : وليس إسناده عندي بمتصل ].
قال ابن القيم تعليقا على الحديث : وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم معاذا على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصا عن الله ورسوله .
ثالثا الحرية الملكية
لقد تمشي الإسلام مع فطرة الإنسان وغريزته في حب المال وتملكه ، أتاح له فرص الكسب المختلفة وسمح له أن يحوز ثمرة جهده ونتيجة عطائه دون أن يمس كرامة غيره أو يجور عليهم في ظل الشرع الحنيف ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه وعن علمه فيم فعل وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه . [ الترمذي : 4/529 ]
ويبين الخولي وظيفة الحافز الفردي في الملكية الفردية فيقول : إنه قانون نفساني ذو خصائص إيجابية يؤدي به المرء دوره في عمارة الأرض على أتم وجه ، ومن هذه الخصائص نزوعه إلى الاستيلاء على حصيلة عمله وأن تحقيق هذا الاستيلاء هو الاستجابة الواجبة ليحقق هذا القانون أثره الذي أراد الله له .(1)
ولكن الإسلام أباح التكسب وجمع المال ضمن ضوابط شرعية معينة وفي إطار مراتب متدرجة ، يقول الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة :
ثم الكسب على مراتب ، فمقدار ما لابد لكل أحد منه يعني ما يقيم به صلبه يفترض على كل أحد اكتسابه عينا لأنه لا يتوصل إلى إقامة الفرائض إلا به ، ومما يتوصل به إلى الفرائض يكون فرضا فإن لم يكتسب زيادة على ذلك فهو في سعة من ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها . [ الترمذي : 4 / 496 ] .
وهذا إن لم يكن عليه دين فإن كان عليه دين فالاكتساب بقدر ما يقضي به دينه فرض عليه لأن قضاء الدين يستحق عليه عينا وبالاكتساب يتوصل إليه .
وكذا إن كان له عيال من زوجة وأولاد فإنه يفترض عليه الكسب بقدر كفايتهم عينا لأن الإنفاق عليهم مستحق عليه وإنما يتوصل إلى إيفاء هذا المستحق بالكسب ، والكسب زيادة على ذلك فيه سعة(1).
وإذا حاز الإنسان على كل شيء من هذا المال وجب عليه أن يقوم بمتطلباته وتكاليفه ، فالمال الذي يمتلكه الإنسان هو مال الله وهو مستخلف فيه وهو مسئول عن كسبه وإنفاقه لا ريب ، وإذا امتلك عبد هذا المال ـ مهما كثر ـ فإنه يبقى فقيرا إلى خالقه ومولاه ، محتاجا إلى رحمته ومغفرته ، قال تعالى : { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد } [ فاطر : 15 ].
يقول الخولي : وإذا أدرك الإنسان حقيقة الافتقار في نفسه عرف أنها فطرته فالتزمها وجعلها منهاجا ، وإذا استعلنت له حقيقة السلب في نفسه بدت كل المواهب نعما وإرادة من الله ومنعه ذلك أن يزهى بها على غيره ، والإحساس بالافتقار يدفع إلى الإقبال على الله ليستمد الإيجاب من معاني صفاته .(1)
فالمال عارية مردودة وإن بقي لأحد فلن يبقى له أحد حيث أنه متاع الحياة الفانية ، قال تعالى : { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب } [ آل عمران : 14 ].
ولن ينفع هذا المال صاحبه إلا إذا استغله فيما يرضي الله عز وجل ويعود عليه بالنفع والفلاح يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، وفي ذلك حث وتحريض لكل من يملك أن يستبدل ما عند الله من اللذات الحقيقية الأبدية بالشهوات المخدجة الناقصة الفانية (1) .
وقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم المال الذي ينفق في أوجه البر بقوله : نعم المال الصالح للمرء الصالح ، [ أحمد : 4 / 197 ]
إن ذاتية الفرد المالك تكمن في تغلبه على نوازعه الشيطانية وتسخير المال الذي رزقه الله لتزكية نفسه وتربيتها لتمضي مع النصوص القرآنية الكثيرة التي تشير إلى ذلك ومنها : { وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب ... } [ البقرة : 177 ] { المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا } [ الكهف : 46 ].
وقوله : { وسيجنبها الأتقى ، الذي يؤتى ماله يتزكى } [ الليل : 18 ] ، { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير } [ البقرة : 265 ] ، { انفروا خفاقا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } [ التوبة : 41 ] .
إضافة إلى ذلك فإن التطبيق الصحيح لحرية التملك يخلص النفس من أنانيتها واستئثارها بما وهبها الله ، وفي التعود على البذل والعطاء راحة للضمير وسكينة للفؤاد ، وإذا أدرك المرء أن المال مال الله وأن الذي أعطاه اليوم يمكنه أن يأخذه غدا ويعطيه لغيره ، يجعله دوما يشعر بالحاجة إلى ما عند الله فيقبل عليه بالطاعات ويوظف ماله في مرضاة الله لنيل ما عند الله من النعيم المقيم
إن حرية التملك التي أقرها الإسلام للأفراد لا تهيئ لهم البذل والعطاء للانعتاق من ذل القيود الأرضية فحسب ، بل تهيئ لهم الإنفاق في المباحات وتوفير المال وتثميره في ظل الشريعة الغراء ، ولهذه الحرية منافع جمة ، يقول سيد قطب : وتقرير حق الملكية الفردية يحقق العدالة بين الجهد والجزاء فوق مسايرته للفطرة واتفاقه مع الميول الأصلية في النفس البشرية ، تلك الميول التي يحسب الإسلام حسابها في إقامة نظام المجتمع وفي الوقت ذاته يتفق مع مصلحة الجماعة بإغراء الفرد على بذل أقصى جهد في طوقه لتنمية الحياة ، فوق ما يحقق من العزة والكرامة والاستقلال ونمو الشخصية للأفراد بحيث يصلحون أن يكونوا أمناء على هذا الدين ، يقفون في وجه المنكر ويحاسبون الحاكم وينصحونه دون خوف من انقطاع أرزاقهم لو كانت في يديه (1).
فمما تسعى إليه التربية الإسلامية أن يكون التوافق كبيرا بين فطرة الإنسان والحرية الملكية التي أبيحت له .
والفرد المسلم المنتمي إلى الجماعة المسلمة لا يرضى لنفسه أن تتنعم بالمال ولا تتذكر إخوانها من حولها فتبادر إلى المساهمة في بناء المجتمع من خلال هذا المال فيشعر في قرارة نفسه أنه قدم شيئا للإسلام والمسلمين .
ويتعجب المرء حين يسمع عن الجمعيات المنحرفة والمؤسسات الضالة التي يسخو أصحابها سخاء لا تعرفه الجمعيات والهيئات الإسلامية ، بل وينظمون أمورها تنظيما ينتج الشر الكبير ويثمر الفتنة العارمة التي لا يشقى بويلاتها إلا الملتزمين بشرائع الإسلام (2).
نموذج فريد لتطبيق الحرية الملكية :
وإذا أردنا مثالا لنفس حررت ذاتها من قيود المال وكانت تطبيقا عمليا لتلك الآيات فلننظر إلى شخصية الحبيب صلى الله عليه وسلم وسيرته القولية والعملية فإنها صورة مقتبسة من القرآن الكريم ، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله : كان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس صدقة بما ملكت يده وكان لا يستكثر شيئا أعطاه لله تعالى ولا يستقله وكان لا يسأله أحد شيئا إلا أعطاه قليلا كان أو كثيرا وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذ وكان أجود الناس بالخير يمينه كالريح المرسلة ، وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه تارة بطعامه وتارة بالهدية ، وكان ينوع في أصناف عطائه وصدقته فتارة بالهبة وتارة بالصدقة وتارة بالهدية وتارة بشراء الشيء ثم يعطي البائع الثمن والسلعة جميعا كما فعل ببعير جابر ، وتارة كان يقترض الشيء فيرد أكثر منه وأفضل وأكبر ويشتري الشيء فيعطي أكثر من ثمنه ويقبل الهدية ويكافئ عليها بأكثر منها أو بأضعافها تلطفا وتنوعا في ضروب الصدقة والإحسان بكل ممكن ، وكانت صدقته وإحسانه بما يملكه وبحاله وبقوله فيخرج ما عنده ويأمر بالصدقة ويحض عليها ويدعو إليها بحاله وقوله فإذا رآه البخيل الشحيح دعاه حاله إلى البذل والعطاء وكان من خالطه وصحبه ورأى هديه لا يملك نفسه من السماحة والندى ، وكان هديه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإحسان والصدقة والمعروف ولذلك كان صلى الله عليه وسلم أشرح الخلق صدرا وأطيبهم نفسا وأنعمهم قلبا فإن للصدقة وفعل المعروف تأثيرا عجيبا في شرح الصدر وإن ضاف ذلك إلى ما خصه الله به من شرح صدره بالنبوة والرسالة وخصائصها وتوابعها وشرح صدره حسا وإخراج حظه منه.(1)
واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ينطلق المسلم من ذاته لفك القيود التي تربطه بالأرض وليرتفع إلى الملكوت الأعلى في السماء ، ويحصل له ذلك بالبذل والعطاء والإنفاق في سبيل الله بسخاء ، فإن في ذلك حياة المجتمع وتضامن أفراده وثبات بنيانه كما أن فيه تربية للإيمان بالاعتماد على الله والتوكل عليه وفيه تربية للنفوس وتمحيصها من أدرانها .
رابعا : الحرية العلمية
لم يلزم الإسلام جميع أفراده بالاتجاه إلى علم معين ، وترك هذا الأمر مطلقا حسب رغبة كل فرد وميوله وأهوائه ، بل إن مقتضى الحال يدعو إلى أن يكون للمسلمين باع في كل علم من العلوم المفيدة وأن يكون لدى جماعة المسلمين الخبراء والمختصون في مختلف المجالات لكي يكونوا في قوة ومنعة ويستغنوا بإمكانيتهم عن الأعداء ، قال تعالى : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا } [ النساء : 83 ].
فوجود الهيئات المتخصصة والعلماء البارعين في مختلف المجالات النافعة أمر هيأته الشريعة ويسرت سبله عن طريق حرية العلم للأفراد ، يقول أحد التربويين المعاصرين : وحين تتعقد المواقف والمشكلات ـ خاصة تلك التي تتعلق بأمور السلم أو أمور الحرب والأخطار ـ وتحتاج إلى درجات عالية من القدرات والخبرات العميقة ومناهج التفكير الحكيم فإن القرآن يوجه إلى وجوب إقامة هيئة متخصصة في دراسة هذا النوع من المواقف والمشكلات(1).