وفي مسند أحمد أيضا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان - يعني عرفة - فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا ، قال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون [ 1/272 ]
ولما كان الأمر كذلك فإن الخلق كلهم مكلفون بالاتباع ، وكل فرد بذاته قد أودع في فطرته الإسلام وإفراد العبادة لله رب العالمين ، ولهذا خلق آدم عليه السلام وذريته لكي يكون كل منهم عابدا لله متبعا لأوامره مجتنبا لنواهيه . وقد استمر آدم وذريته على ذلك عشرة قرون كلهم على شريعة الحق حتى عهد نوح عليه السلام (1)
فلما اختلفوا وحادوا عن الصراط بعث الله الرسل والأنبياء يوجهون الناس ويرشدونهم لكي يردوهم إلى جادة الصواب
قال تعالى { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } [ البقرة : 213 ] . وقد أرسل الله سبحانه وتعالى المرسلين عليهم السلام لتجديد العهد وتوضيح هذه الغاية ، فقال نوح عليه السلام لقومه : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } [ الأعراف : 59 ] ، وكذلك قال هود عليه السلام لقومه عاد : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } [ الأعراف : 73 ] وقالها شعيب عليه السلام لأصحاب الأيكة : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } [ الأعراف : 85 ] كما قالها غيرهم لأقوامهم ، وقد حقق بعض تلك الأمم غاية وجوده ونكل عن ذلك آخرون كما قال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة } [ النحل : 36 ]
وجاء القرآن المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مقررا ومؤكدا على ذلك الهدف العظيم من وجودك أيها الإنسان وذلك في آيات كثيرة منها قوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] فمقام العبودية هو المقام الذي اختاره تعالى للخلق أجمعين . وقد وصف ملائكته المقربين بوصف العبودية فقال تعالى : { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [ الأنبياء : 19 ] وقال أيضا : { إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون } [ الأعراف : 206 ] . وفي حادثة الإسراء ارتقى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى أشرف مقام وأعظم منزلة ، قال تعالى : { ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى } [ النجم : 8 ، 9 ]
وتلك مكانة لم يصل إليها نبي مرسل ولا ملك مقرب ، ومع ذلك فقد ارتبط لفظ العبودية به عليه السلام ، قال تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا } [ الإسراء : 1 ] فدل ذلك على أن أرفع منزلة هي منزلة العبودية ، وكذلك قال عز وجل عن عيسى عليه السلام : { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل } [ الزخرف : 59 ] ولذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله . [ البخاري 2/490 ] .
والعبودية وصف ملازم لكل إنسان ما دام له قلب ينبض وعين تطرف ، قال تعالى : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 99 ] قال ابن حجر رحمه الله : قال سالم : اليقين : الموت (1)
وفي هذه الآية والآيات التي قبلها رد على مزاعم الصوفية التي تقول إنه يمكن للعبد أن ترفع عنه التكاليف الشرعية متى وصل إلى حالة أو مرحلة معينة ، ونحن نعلم من سيرة المصطفى عليه السلام أنه كان عابدا لله حتى آخر لحظة من حياته ، فهل يمكن لعبد أن يسعه ما لم يسع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! وفي الآيات أيضا دلالة على تكريم الإنسان الذي شرفه ربه بأن جعله وهو المخلوق الضعيف منتسبا بالعبودية لرب الكونين رب السماوات السبع والأرضين ومن فيهن . وفي المقابل نجد أفرادا من المسلمين يتجردون من عبوديتهم للخالق منصرفين إلى عبادة غيره ، وقد دعا الرسول عليه السلام على أولئك دعوة تصل إليهم وهم في عقر منازلهم فقال : تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش ، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع . [ البخاري : 2/328 ]
معنى العبودية :
علمنا مما سبق أن وظيفة الإنسان الأولى والغاية من وجوده هي العبودية ، فماذا تعني هذه الكلمة وما مدلولاتها ؟ هل هي نطق بالشهادتين فقط ؟! أم أنها حركات بالجوارح ؟! أم يكفي الاعتقاد بالقلب ؟! أم غير ذلك من الأقوال والآراء ؟ الواقع أنها تشمل ذلك كله فهي نطق باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان وذلك في حدود ما شرعه الرحمن . وكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - هي : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة ، وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر بنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وأمثال ذلك من العبادات لله . (1)
والعبودية تعني أن يستسلم المرء لخالقه بكل جوارحه وطاقاته وتصرفاته وأفكاره وشعوره . كما تعني أن ينقاد للشرع ويحكمه في نفسه وأهله وما ملكت يمينه ، تاركا أهواءه وشهواته وراءه ظهريا . ويوضح سيد قطب حقيقة العبادة في أسلوب أدبي رفيع قائلا : إن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسيين :
الأول : هو استقرار معنى العبودية لله في النفس ، أي استقرار الشعور أن هناك عبدا وربا . عبدا يعبد وربا يعبد ، وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار . ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود وإلا رب واحد والكل له عبيد .
والثاني : هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير وكل حركة في الحياة . التوجه بها إلى الله خالصة والتجرد من كل شعور آخر ومن كل معنى غير معنى التعبد لله (2) .
نعم ... بهذا الاستسلام وبهذا الانقياد يكون الفرد عبدا لله ، عبدا يوظف كل ما يملك من نعم مادية أو معنوية ابتغاء مرضات الله ويجعلها ذخرا وزادا ليوم المعاد استعدادا . قال تعالى : { وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا } [ القصص : 77 ] وليعلم الإنسان أنه إن لم يعبد الله حق العبادة فإنه لا شك سيعبد الشيطان الذي أخذ عهدا على نفسه بأن يغوي بني آدم ويزين لهم الضلال ويحبب إليهم المنكرات . فينبغي على كل مسلم أن يكون حذرا حتى لا يقع في حبائل الشيطان ومصائده فيسلم من شره ويصبح من عباد الله المخلصين كما قال تعالى في حوار مع الشيطان : { قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال هذا صراط علي مستقيم * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } [ الحجر : 39-42 ] .
فعبد الله المخلص يوحد الله بالعبادة ولا يدع للشيطان مجالا أو منفذا يصل إليه منه . ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - الأساس العقدي لهذا الأمر فيقول : ولهذا كان كل من لم يعبد الله وحده فلابد أن يكون عابدا لغيره ، يعبد غيره فيكون مشركا وليس في بني آدم قسم ثالث ، بل إما موحد أو مشرك أو من خلط هذا بهذا كالمبدلين من أهل الملل النصارى ومن أشبههم من الضلال المنتسبين إلى الإسلام (1)
فالإنسان يحدد بنفسه إما أن يكون عابدا لله أو عابدا للشيطان ، وبيده تحقيق غاية وجوده ، وبالتالي تحديد مصيره .
ثالثا : المصير
إن أي مخلوق مهما امتد أجله وطال عمره فإن له نهاية محتمة ، فكل نفس ذائقة الموت ، الموت الذي قدره الله عز وجل على خلقه وكتبه على عباده وانفرد جل شأنه بالبقاء والدوام ، قال تعالى { كل نفس ذائقة الموت } [ آل عمران : 185 ]
وقال أيضا : { ألهاكم التكاثر ، حتى زرتم المقابر } [ التكاثر : 1، 2 ] ، ففي آيتين من خمس كلمات فقط يصور القرآن الكريم حال الدنيا وما بعدها ، فهي حياة ملهية ثم زيارة وأي زيارة ، زيارة منتهية لا محالة ويكون بعدها الانتقال إلى دار الحساب ، ولكن تلك الزيارة أي فترة البقاء في القبور لا يعلم مداها إلا الله ومع ذلك فنحن نعلم من ديننا أن تلك الحفرة الضيقة ستكون على صاحبها أحد أمرين : إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ، كما ورد في حديث البراء بن عازب الطويل [ انظر سنن أبي داود حديث رقم 3212 ] وغيره من الأحاديث . يقول ابن القيم : مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب ، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة ، وأنها تتصل بالبدن أحيانا ويحصل له معها النعيم أو العذاب ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى الأجساد وقاموا من قبورهم لرب العباد ، ومعاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى.(1)
فإذا مات الإنسان فهذه قيامته وهي القيامة الصغرى ، أما القيامة الكبرى فتكون عندما يؤذن بالنفخ في الصور فيحشر جميع العباد ، قال تعالى : { يوم ترجف الراجفة ، تتبعها الرادفة } [ النازعات : 6 ، 7 ] عندئذ ترتجف القلوب والأفئدة وتحتار العقول والأفهام كما قال تعالى : { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } [ الحج : 2 ] . ويصور هول ذلك اليوم أيضا قوله تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} [ لقمان : 33 ] .
وإذا تأملنا القرآن الكريم وجدنا آيات كثيرة جدا تعرض لذلك اليوم من زوايا متعددة ومشاهد مختلفة ، وتعني هذه المشاهد بتصوير الهول في يوم القيامة ، ذلك الهول الذي يشمل الطبيعة كلها ويغشى النفس الإنسانية ويهزها ولا يكاد يخلو مشهد واحد من اشتراك الأحياء فيه ...، وتعني هذه المشاهد أيضا بتصوير مواقف الحساب قبل النعيم والعذاب ، وهنا نلتقي بألوان شتى من طرق العرض الكثيرة وسمات شتى للموقف المعروض(2)
وتبين السنة كذلك بعض أهوال ذلك اليوم العصيب ، ففي حديث الشفاعة يقول صلى الله عليه وسلم : يجمع الله الناس ـ الأولين والآخرين ـ في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس ألا ترون ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ، [ البخاري : 3/250 ]، ومن حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا فقلت يا رسول الله النساء والرجال جميعا ينظر بعضهم إلى بعض ؟ فقال يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض [ مسلم : 4/ 2194 ]
ومن حديث المقداد ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل ، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاما ، قال وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه [ مسلم : 4/ 2196 ]
فهذه الأهوال وغيرها تنتظر كل إنسان ولن ينجو منها أحد فالكل صائرون إلى الله يقول تعالى : { يقول الإنسان يومئذ أين المفر ، كلا لا وزر ، إلى ربك يومئذ المستقر ، ينبؤا الإنسان يؤمئذ بما قدم وأخر } [ القيامة : 10 ـ 13 ]