فأماالبداية من هنا ما يعرف به الفرق بين هذه المعاني وأشباهها فإشياء كثيرة منها اختلاف ما يستعمل
عليه اللفظان اللذان يراد الفرق بين معنييهما ومنها اعتبار صفات المعنيين اللذين يطلب الفرق بينهما ومنها
اعتبار ما يؤول إليه المعنيات ومنها اعتبار الحروف التي تعدى بها الأفعال ومنها اعتبار النقيض ومنها
اعتبار الاشقاق ومنها ما يوجبه صيغة اللفظ من الفرق بينه وبين ما يقاربه ومنها اعتبار حقيقة اللفظين أو
أحدهما في أصل اللغة
فأما الفرق الذي يعرف من جهة ما تستعمل عليه الكلمتان فكالفرق بين العلم والمعرفة وذلك أن العلم يتعدى
إلى مفعولين والمعرفة تتعدى إلى مفعول واحد فتصرفهما على هذا الوجه واستعمال أهل اللغة إياهما عليه
يدل على الفرق بينهما في المعنى وهو أن لفظ المعرفة يفيد تمييز المعلوم من غيره ولفظ العلم لا يفيد ذلك
إلا بضرب آخر من التخصيص في ذكر المعلوم وسنتكلم في ذلك بما فيه كفاية إذا انتهينا إلى موضعه
وأما الفرق الذي يعرف من جهة صفات المعنيين فكالفرق بين الحلم والإمهال وذلك أن الحلم لا يكون إلا
حسنا والإمهال يكون حسنا وقبيحا وسنبين ذلك في موضعه إن شاء الله
وأما الفرق الذي يعرف من جهة اعتبار ما يؤول إليه المعنيان فكالفرق بين المزاح والاستهزاء وذلك أن
المزاح لا يقتضي تحقير الممازح ولا اعتقاد ذلك فيه ألا ترى التارع يمازح المبتوع من الرؤساء
والملوك فلا يدل ذلك منه على تحقيرهم ولا اعتقاد تحقيرهم ولكن يدل
على استئناسه بهم والاستهزاء يقتضي تحقيره المستهزا به فظهر الفرق بين المعنيين بتباين ما دلا عليه وأوجباه
وأما الفرق الذي يعلم من جهة الحروف التي تعدى بها الأفعال فكالفرق بين العفو والغفران ذلك أنك تقول
عفوت عنه فيقتضي ذلك أنك محوت الذم والعقاب عنه وتقول غفرت له فيقتضي ذلك أنك سترت له ذنبه
ولم تفضحه به وبيان هذا يجيء في بابه إن شاء الله
واما الفرق الذي يعرف من جهة اعتبار النقيض فكالفرق بين الحفظ والرعاية وذلك أن نقيض الحفظ
الإضاعة ونقيض الرعاية الإهمال ولهذا يقال للماشية إذا لم يكن لها راع همل والإهمال ما يؤدي إلى
الإضاعة فعلى هذا يكون الحفظ وصرف المكاره عن الشيء لئلا يهلك والرعاية فعل السبب الذي يصرف
به المكاره عنه وسنشرح هذا في موضعه ان شاء الله ولو لم يعتبر في الفرق بين هاتين الكلمتين وما
بسبيلهما النقيض لصعب معرفة الفرق بين ذلك
وأما الفرق من جهة الاشتقاق فكالفرق بين السياسة والتدبير وذلك أن السياسة هي النظر في الدقيق من
أمور السوس مشتقه من السوس هذا الحيوان المعروف ولهذا لا يوصف الله تعالى بالسياسة لأن الأمور
لا تدق عنه التدبير مشتق من الدبر ودبر كل شيء آخره وأدبار الأمور عواقبها فالتدبير آخر الأمور
وسوقها إلى ما يصلح به أدبارها أي عواقبها ولهذا قيل للتدبير المستمر سياسة وذلك أن التدبير إذا كثر
واستمر عرض فيه ما يحتاج إلى دقة النظر فهو راجع إلى الأول وكالفرق بين التلاوة والقراءة وذلك أن
التلاوة لا تكون في الكلمة الواحدة والقراءة تكون فيها تقول قرأ فلان اسمه ولا تقول تلا اسمه وذلك أن
أصل التلاوة من قولك تلا الشيء الشيء يتلوه إذا تبعه فإذا لم تكن الكلمة تتبع أختها لم تستعمل فيها
التلاوة وتستعمل فيها القراءة لأن القراءاة اسم الجنس هذا الفعل
وأما الفرق الذي توجبه صيفة اللفظ فكالفرق بين الاستفهام والسؤال وذلك أن الاستفهام لا يكون إلا لما
يجهله المستفهم أو يشك فيه لأن المستفهم طالب لأن يفهم وقد يجوز أن يسأل فيه السائل عما يعلم وعما
لا يعلم فصيغة الاستفهام هي استفعال والاستفعال صيفته من الاسماء والأفعال فمعناه مختلف مثل
الضعف والضعف والجهد والجهد وغير ذلك مما يجري مجراه
________________________________________
وأما الفرق الذي يعرف من جهة اعتبار أصل اللفظ في اللغة وحقيقته فيها فالفرق بين الحنين واشتياق
وذلك أن أصل الحنين في اللغة هو صوت من أصوات الأبل تحدثها إذا اشتاقت إلى أوطانها ثم كثر ذلك
حتى أجرى اسم كل واحد منخا على الاخر كما يجري على السبب وعلى المسبب أسم السبب فإذا اعتبرت
هذه المعاني وما شاكلها في الكلمتين ولم يستبن لك الفرق بين معنييهما فاعلم أنهما من لغتين مثل القدر
بالبصرية والبرمة بالمكية ومثل قولنا الله بالعربية وأزر بالفارسية وهذه جملة إذا اعتمدتها أوصلتك إلى
بغيتك من هذا الباب إن شاء الله