استعداد الأنصار لضرب قريش
وعند سماع صوت هذا الشيطان قال العباس بن عبادة بن
نضلة: والذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن على أهل منى غدًا باسيافنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى
رحالكم]، فرجعوا وناموا حتى أصبحوا.
قريش تقدم الاحتجاج إلى رؤساء يثرب
لما قـرع هذا الخبر آذان قريش وقعت فيهم ضجة، وساورتهم القلاقل والأحزان؛ لأنهم
كانوا على معرفة تامة بعواقب مثل هذه
البيعة ونتائجها بالنسبة إلى أنفسهم وأموالهم،
فما أن أصبحوا حتى توجه وفد كبير من زعماء مكة وأكابر مجرميها إلى أهل
يثرب؛ ليقدم
احتجاجه الشديد على هذه المعاهدة، قال الوفد:
[يا معشر الخزرج، إنه قد
بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا،
وإنه والله ما من حى من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم].
ولما كان مشركو الخزرج لا يعرفون شيئًا عن هذه البيعة؛ لأنها تمت في سرية
تامة في ظلام الليل، انبعث هؤلاء المشركون
يحلفون بالله : ما كان من شيء وما
علمناه، حتى أتوا عبد الله بن أبي بن سلول، فجعل يقول: هذا باطل، وما كان هذا،وما
كان قومى ليفتاتوا على بمثل هذا، ولو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني.
أما المسلمون فنظر بعضهم إلى بعض، ثم لاذوا بالصمت، فلم يتحدث أحد منهم
بنفي أو إثبات.
ومال زعماء قريش إلى تصديق المشركين، فرجعوا خائبين.
تأكد الخبر لدى قريش ومطاردة المبايعين
عاد زعماء مكة وهم على شبه
اليقين من كذب هذا الخبر، لكنهم لم يزالوا يَتَنَطَّسُونه ـ يكثرون البحث عنه
ويدققون النظر فيه
ـ حتى تأكد لديهم أن الخبر صحيح، والبيعة قد تمت فعلًا. وذلك
بعد ما نفر الحجيج إلى أوطانهم، فسارع فرسانهم بمطاردة
اليثربيين، ولكن بعد فوات
الأوان، إلا أنهم تمكنوا من رؤية سعد بن عبادة والمنذر ابن عمرو فطاردوهما، فأما
المنذر فأعجز
القوم، وأما سعد فألقوا القبض عليه، فربطوا يديه إلى عنقه بنِسْع
رَحْلِه، وجعلوا يضربونه ويجرونه ويجرون شعره حتى
أدخلوه مكة، فجاء المطعم بن عدى
والحارث بن حرب بن أمية فخلصاه من أيديهم؛ إذ كان سعد يجير لهما قوافلهما المارة
بالمدينة، وتشاورت الأنصار حين فقدوه أن يكروا إليه، فإذا هو قد طلع عليهم، فوصل
القوم جميعًا إلى المدينة.
هذه هي بيعة العقبة الثانية ـ التي تعرف ببيعة
العقبة الكبرى ـ وقد تمت في جو تعلوه عواطف الحب والولاء، والتناصر بين
أشتات
المؤمنين، والثقة والشجاعة والاستبسال في هذا السبيل. فمؤمن من أهل يثرب يحنو على
أخيه المستضعف في مكة،
ويتعصب له،ويغضب من ظالمه، وتجيش في حناياه مشاعر الود لهذا
الأخ الذي أحبه بالغيب في ذات الله
.
ولم تكن هذه المشاعر والعواطف نتيجة
نزعة عابرة تزول على مر الأيام، بل كان مصدرها هو الإيمان بالله وبرسوله
وبكتابه،
إيمان لا يزول أمام أي قوة من قوات الظلم والعدوان، إيمان إذا هبت ريحه جاءت
بالعجائب في العقيدة والعمل،
وبهذا الإيمان استطاع المسلمون أن يسجلوا على أوراق
الدهر أعمالًا، ويتركوا عليها آثارًا خلا عن نظائرها الغابر والحاضر، وسوف يخلو
المستقبل.