في دار الندوة [برلمان قريش]
ولما رأى المشركون أن أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد تجهزوا وخرجوا، وحملوا وساقوا الذرارى والأطفال
والأموال إلى
الأوس والخزرج أصابتهم الكآبة والحزن، وساورهم القلق والهم بشكل لم يسبق له مثيل،
فقد تجسد أمامهم خطر
حقيقى عظيم، أخذ يهدد كيانهم الوثني والاقتصادي.
فقد
كانوا يعلمون ما في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم من غاية قوة التأثير مع كمال
القيادة والإرشاد، وما في أصحابه
من العزيمة والاستقامة والفداء في سبيله، ثم ما في
قبائل الأوس والخزرج من القوة والمنعة، وما في عقلاء هاتين القبيلتين
من عواطف
السلم والصلاح، والتداعي إلى نبذ الأحقاد، ولاسيما بعد أن ذاقوا مرارة الحروب
الأهلية طيلة أعوام من الدهر.
كما كانوا يعرفون ما للمدينة من الموقع
الاستراتيجي بالنسبة إلى المحجة التجارية التى تمر بساحل البحر الأحمر من اليمن
إلى
الشام. وقد كان أهل مكة يتاجرون إلى الشام بقدر ربع مليون دينار ذهب سنويًا، سوى
ما كان لأهل الطائف وغيرها.
ومعلوم أن مدار هذه التجارة كان على استقرار الأمن في
تلك الطريق.
فلا يخفي ما كان لقريش من الخطر البالغ في تمركز الدعوة
الإسلامية في يثرب، ومجابهة أهلها ضدهم.
شعر المشركون بتفاقم الخطر الذي
كان يهدد كيانهم، فصاروا يبحثون عن أنجح الوسائل لدفع هذا الخطر الذي مبعثه الوحيد
هو حامل لواء دعوة الإسلام محمدصلى الله عليه وسلم.
وفي يوم الخميس 26 من
شهر صفر سنة 14 من النبوة، الموافق 12 من شهر سبتمبر سنة 622م ـ أي بعد شهرين
ونصف
تقريبًا من بيعة العقبة الكبرى ـ عقد برلمان مكة [دار الندوة] في أوائل
النهارأخطر اجتماع له في تاريخه، وتوافد
إلى هذا الاجتماع جميع نواب القبائل
القرشية؛ ليتدارسوا خطة حاسمة تكفل القضاء سريعًا على حامل لواء الدعوة الإسلامية؛
وتقطع تيار نورها عن الوجود نهائيًا. وكانت الوجوه البارزة في هذا الاجتماع
الخطير من نواب قبائل قريش:
1 ـ أبو جهل بن هشام، عن قبيلة بني مخزوم.
2، 3، 4ـ جبير بن مُطْعِم، وطُعَيْمَة بن عدى، والحارث بن عامر، عن بني
نَوْفَل بن عبد مناف.
5، 6، 7ـ شيبة وعتبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب،
عن بني عبد شمس بن عبد مناف.
8 ـ النَّضْر بن الحارث، عن بني عبد
الدار.
9، 10، 11ـ أبو البَخْتَرِى بن هشام، وزَمْعَة بن الأسود، وحَكِيم
بن حِزَام، عن بني أسد بن عبد العزى.
12، 13ـ نُبَيْه ومُنَبِّه ابنا
الحجاج، عن بني سهم.
14ـ أمية بن خَلَف، عن بني جُمَح.
ولما
جاءوا إلى دار الندوة حسب الميعاد، اعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل، عليه بَتٌّ له،
ووقف على الباب، فقالوا: من
الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له
فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألا يعدمكم منه رأيًا ونصحًا.
قالوا: أجل،
فادخل، فدخل معهم.
النقاش البرلماني والإجماع على قرار غاشم بقتل النبي
صلى الله عليه وسلم
وبعد أن تكامل الاجتماع بدأ عرض الاقتراحات والحلول،
ودار النقاش طويلًا. قال أبو الأسود: نخرجه من بين أظهرنا وننفيه
من بلادنا،
ولا نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع، فقد أصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت.
قال
الشيخ النجدى: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه،
وغلبته على قلوب الرجال بما يأتى به؟
والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حى
من العرب، ثم يسير بهم إليكم ـ بعد أن يتابعوه ـ حتى يطأكم بهم في بلادكم، ثم
يفعل
بكم ما أراد، دبروا فيه رأيًا غير هذا.
قال أبو البخترى: احبسوه في
الحديد وأغلقوا عليه بابًا، ثم تربصوا به ما أصاب أمثاله من الشعراء الذين كانوا
قبله ـ زهيرًا
والنابغة ـ ومن مضى منهم، من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم.
قال الشيخ النجدى: لا والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه ـ كما
تقولون ـ ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم
دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن
يثبوا عليكم، فينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم
برأي، فانظروا في غيره.
وبعد أن رفض البرلمان هذين الاقتراحين، قدم إليه
اقتراح آثم وافق عليه جميع أعضائه، تقدم به كبير مجرمى مكة أبو جهل
بن هشام. قال
أبو جهل: والله إن لى فيه رأيًا ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا: وما هو يا
أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من
كل قبيلة فتى شابًا جليدًا نَسِيبا وَسِيطًا
فينا، ثم نعطى كل فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجل
واحد، فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعًا، فلم
يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا،
فرضوا منا بالعَقْل، فعقلناه لهم.
قال الشيخ النجدى: القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا رأي غيره.
ووافق برلمان مكة على هذا الاقتراح الآثم بالإجماع، ورجع النواب إلى بيوتهم
وقد صمموا على تنفيذ هذا القرار فورًا