الأمور التي رأها الرسول في المعراج
وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الـرحلة أمورًا عديدة:
عرض
عليه اللبن والخمر، فاختار اللبن، فقيل: هديت الفطرة أو أصبت الفطرة، أما إنك لو
أخذت الخمر غوت أمتك.
ورأي أربعة أنهار يخرجن من أصل سدرة المنتهى:
نهران ظاهران ونهران باطنان، فالظاهران هما: النيل والفرات،
عنصرهما.
والباطنان: نهران في الجنة. ولعل رؤية النيل والفرات كانت إشارة إلى تمكن
الإسلام من هذين القطرين، والله أعلم.
ورأى مالكًا خازن النار، وهو لا
يضحك، وليس على وجهه بشر ولا بشاشة، وكذلك رأي الجنة والنار.
ورأى أكلة
أموال اليتامى ظلمًا لهم مشافر كمشافر الإبل، يقذفون في أفواههم قطعًا من نار
كالأفهار، فتخرج من أدبارهم.
ورأى أكلة الربا لهم بطون كبيرة لا يقدرون
لأجلها أن يتحولوا عن أماكنهم، ويمر بهم آل فرعون حين يعرضون على النار فيطأونهم.
ورأى الزناة بين أيديهم لحم سمين طيب، إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من
الغث المنتن، ويتركون الطيب السمين.
ورأى النساء اللاتى يدخلن على الرجال
من ليس من أولادهم، رآهن معلقات بثديهن.
ورأى عيرًا من أهل مكة في الإياب
والذهاب، وقد دلهم على بعير نَدَّ لهم، وشرب ماءهم من إناء مغطى وهم نائمون، ثم ترك
الإناء مغطى، وقد صار ذلك دليلًا على صدق دعواه في صباح ليلة الإسراء.
قال ابن القيم: فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه أخبرهم
بما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى، فاشتد
تكذيبهم له وأذاهم واستضرارهم عليه،
وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس، فجلاه الله له، حتى عاينه، فطفق يخبرهم عن آياته،
ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئًا، وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن
وقت قدومها، وأخبرهم عن
البعير الذي يقدمها، وكان الأمر كما قال، فلم يزدهم ذلك إلا
نفورًا، وأبي الظالمون إلا كفورًا .
يقال: سُمى أبو بكر رضي الله عنه
صديقًا؛ لتصديقه هذه الوقعة حين كذبها الناس.
وأوجز وأعظم ما ورد في
تعليل هذه الرحلة هو قوله تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:
1] وهذه سنة الله في الأنبياء،
قال: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ
مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}
[الأنعام:75]، وقال لموسى عليه السلام:
{لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا
الْكُبْرَى} [طه:23]، وقد بين مقصود هذه الإراءة بقوله: {وَلِيَكُونَ
مِنَ الْمُوقِنِينَ} فبعد استناد علوم الأنبياء
إلى رؤية الآيات يحصل لهم من عين
اليقين ما لا يقادر قدره، وليس الخبر كالمعاينة، فيتحملون في سبيل الله ما لا يتحمل
غيرهم، وتصير جميع قوات الدنيا عندهم كجناح بعوضة لا يعبأون بها إذا ما تدول عليهم
بالمحن والعذاب.
والحكم والأسرار التي تكمن وراء جزئيات هذه الرحلة إنما
محل بحثها كتب أسرار الشريعة، ولكن هنا حقائق بسيطة تتفجر
من ينابيع هذه الرحلة
المباركة، وتتدفق إلى حدائق أزهار السيرة النبوية ـ على صاحبها الصلاة والسلام
والتحية ـ أرى أن أسجل بعضًا منها بالإيجاز:
يرى القارئ في سورة الإسراء
أن الله ذكر قصة الإسراء في آية واحدة فقط، ثم أخذ في ذكر فضائح اليهود وجرائمهم،
ثم
نبههم بأن هذا القرآن يهدى للتى هي أقوم، فربما يظن القارئ أن الآيتين ليس
بينهما ارتباط، والأمر ليس كذلك، فإن الله تعالى
يشير بهذا الأسلوب إلى أن الإسراء
إنما وقع إلى بيت المقدس؛ لأن اليهود سيعزلون عن منصب قيادة الأمة الإنسانية؛ لما
ارتكبوا من الجرائم التي لا مجال بعدها لبقائهم على هذا المنصب، وإن الله سينقل هذا
المنصب فعلا إلى رسوله صلى الله
عليه وسلم ويجمع له مركزى الدعوة الإبراهيمية
كليهما، فقد آن أوان انتقال القيادة الروحية من أمة إلى أمة؛ من أمة ملأت
تاريخها
بالغدر والخيانة والإثم والعدوان، إلى أمة تتدفق بالبر والخيرات، ولا يزال رسولها
يتمتع بوحى القرآن الذي يهدى للتى هي أقوم.
ولكن كيف تنتقل هذه القيادة،
والرسول يطوف في جبال مكة مطرودًا بين الناس؟ هذا السؤال يكشف الغطاء عن حقيقة
أخرى، وهي أن عهدًا من هذه الدعوة الإسلامية قد أوشك إلى النهاية والتمام، وسيبدأ
عهد آخر جديد يختلف عن الأول في
مجراه، ولذلك نرى بعض الآيات تشتمل على إنذار سافر
ووعيد شديد بالنسبة إلى المشركين { وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً
أَمَرْنَا
مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ
وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا
بَصِيرًا} [الإسراء:16،
17] وبجنب هذه الآيات آيات أخرى تبين للمسلمين قواعد الحضارة وبنودها ومبادئها
التي يبتنى
عليها مجتمعهم الإسلامى، كأنهم قد أووا إلى أرض امتلكوا فيها أمورهم من
جميع النواحى، وكونوا وحدة متماسكة تدور
عليها رحى المجتمع، ففيه إشارة إلى أن
الرسول صلى الله عليه وسلم سيجد ملجأ ومأمنًا يستقر فيه أمره، ويصير مركزًا لبث
دعوته في أرجاء الدنيا. هذا سر من أسرار هذه الرحلة المباركة، يتصل ببحثنا فآثرنا
ذكره.
ولأجل هذه الحكمة وأمثالها نرى أن الإسراء إنما وقع إما قبيل بيعة
العقبة الأولى أو بين العقبتين، والله أعلم.