كيفية التثبيت
فالخلق كلهم قسمان موفق بالتثبيت ومخذول بترك التثبيت ومادة التثبيت وأصله ومنشأه من القول الثابت
وفعل ما أمر به العبد فيهما يثبت الله عبده فكل ما كان أثبت قولا وأحسن فعلا كان أعظم تثبتا قال تعالى
ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا فأثبت الناس قلبا أثبتهم قولا والقول الثابت هو
القول الحق والصدق وهو ضد القول الباطل الكذب فالقول نوعان ثابت له حقيقة وباطل لا حقيقة له
وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها فهي أعظم ما يثبت الله بها عباده في الدنيا والآخرة ولهذا ترى
الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلبا والكاذب من أمهن الناس وأخبثهم وأكثرهم تلويا وأقلهم ثباتا وأهل
الفراسة يعرفون صدق الصادق من ثبات قلبه وقت الاختبار وشجاعته ومهابته ويعرفون كذب الكاذب
بضد ذلك ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة وسئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم به فقال والله
ما فهمت منه شيئا الا أني سمعت لكلامه صولة ليست بصولة مبطل فما منح العبد منحة أفضل من منحة
القول الثابت ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكونون إليه في قبورهم ويوم معادهم كما في صحيح
مسلم من حديث البراء بن عازب عن النبي أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر وقد جاء هذا مبينا في
أحاديث صحاح فمنها ما في المسند من حديث داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال كنا مع
النبي في جنازة فقال يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا الإنسان دفن وتفرق عنه
سؤال القبر أصحابه جاءه ملك بيده مطراق فأقعده فقال ما تقول في هذا الرجل فإن كان مؤمنا قال أشهد
ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول له صدقت فيفتح له باب إلى النار
فيقال له هذا منزلك لو كفرت بربك فأما إذ آمنت فإن الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى الجنة فيريد أن
ينهض له اسكن ثم يفسح له في قبره وأما الكافر والمنافق فيقال له ما تقول في هذا الرجل فيقول لا أدري
فيقال لا دريت ولا اهتديت ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له هذا منزلك لو آمنت بربك فأما إذ كفرت
فإن الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى النار ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله كلهم إلا
الثقلين قال بعض أصحابه يا رسول الله ما منا من أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلا هيل عند
ذلك فقال رسول الله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين
ويفعل الله ما يشاء
وفي المسند من حديث البراء بن عازب وروى المنهال عن عمرو وعن زاذان عن البراء قال قال رسول
الله وذكر قبض روح المؤمن فقال يأتيه آت يعني في قبره فيقول من ربك وما دينك ومن نبيك فيقول
ربي الله وديني الإسلام ونبي محمد قال فيقول له ما ربك وما دينك وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن
فذلك حين يقول الله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة فيقول ربي الله وديني
الإسلام ونبيي محمد فيقال له صدقت وهذا حديث صحيح
وقال حماد بن سلمة عن محمد بن عمر وعن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله يثبت الله
الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة قال إذا قيل له في القبر من ربك وما دينك فيقول
ربي الله وديني الاسلام ونبي محمد جاء بالبينات من عند الله فآمنت وصدقت فيقال له صدقت على هذا
عشت وعليه مت وعليه تبعث وقال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب قال
قال رسول الله وذكر قبض روح المؤمن قال فترجع روحه في جسده ويبعث إليه ملكان شديدان فيجلسانه
وينهرانه ويقولان من ربك فيقول الله وما دينك فيقول الإسلام فيقولان ما هذا الرجل الذي بعث فيكم
فيقول محمد رسول الله قال فيقولان له وما يدريك قال يقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت وذلك
قول الله تبارك وتعالى يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة رواه ابن حبان في
صحيحه وأحمد وفي صحيحه أيضا من حديث أبي هريرة يرفعه قال إن الميت ليسمع خفق نعالهم يولون
عنه مدبرين فإذا كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه والزكاة عن يمينه وكان الصيام عن يساره وكان
فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه فيؤتى من عند رأسه فتقول
الصلاة ما قبلي مدخل فيؤتى عن يمينه فتقول الزكاة ما قبلي مدخل فيؤتي عن يساره فيقول الصيام ما
قبلي مدخلى فيؤتى من عند
رجليه فتقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف و الإحسان إلى الناس ما قبلي مدخل فيقال له
اجلس فيجلس قد مثلت له الشمس قد قدمت للغروب فيقال له أخبرنا عما نسألك عنه فيقول وعم تسألوني
فيقول دعوني حتى أصلي فيقال إنك ستفعل
فأخبرنا عما نسألك فيقول وعم تسألون فيقال له أرأيت هذا الرجل الذي بعث فيكم ماذا تقول فيه وماذا
تشهد به عليه فيقول محمد فيقولون نعم فيقول أشهد أنه رسول الله وأنه جاءنا بالبينات من عند الله
فصدقناه فيقال له على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعلى ذلك تبعث إن شاء الله ثم يفسح له في قبره
سبعون ذراعا وينور له فيه ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال انظر إلى ما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة
وسرورا ثم يجعل نسمته في النسم الطيبة وهي طير خضر تعلق بشجر الجنة فيعاد الجسد إلى ما بدا منه
من التراب وذلك قول الله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولا تستطل هذا
الفصل المعترض فالمفتي والشاهد والحاكم بل وكل مسلم أشد ضرورة إليه من الطعام والشراب والنفس
وبالله التوفيق
فصل ومنها قوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن
يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق فتأمل هذا المثل
ومطابقته لحال من أشرك بالله وتعلق بغيره ويجوز لك في هذا التشبيه أمران أحدهما أن تجعله تشبيها
مركبا ويكون قد شبه من أشرك بالله وعبد معه غيره
مثل من يشرك بالله فكأنما خر من السماء برجل قد تسبب إلى هلاك نفسه هلاكا لا يرجى معه نجاة
فصور حاله بصورة من خر من السماء فاختطفه الطير في الهوى فتمزق مزعا في حواصلها أو عصفت
به الريح حتى هوت في بعض المطارح البعيدة وعلى هذا لا ينظر إلى كل فرد من أفراد الشبه ومقابلته
من المشبه به
والثاني أن يكون من التشبيه المفرق فيقابل كل واحد من أجزاء الممثل بالممثل به وعلى هذا فيكون قد
شبه الإيمان والتوحيد في علوه وسعته وشرفه بالسماء التي هي مصعده ومهبطه فمنها يهبط إلى الأرض
وإليها يصعد منها وشبه تارك الإيمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين من حيث التضييق
الشديد والآلام المتراكمة والطير الذي يخطف أعضاءه ويمزقه كل ممزق بالشياطين التي يرسلها الله
سبحانه وتعالى عليه تؤزه أزا وتزعجه وتقلقه إلى مظان هلاكه فكل شيطان له مزعة من دينه وقلبه كما
أن لكل طير مزعة من لحمه وأعضائه والريح التي تهوي به في مكان سحيق هو هواه الذي يحمله القاء
نفسه في أسفل مكان وأبعده من السماء
فصل ومنها قوله تعالى يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا
ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب وما قدروا الله
حق قدره إن الله لقوي عزيز حقيق كل عبد أن يستمع لهذا
الشرك بالله لن يخلقوا ذبابا المثل ويتدبره حق تدبره فإنه يقطع موارد الشرك من قلبه وذلك أن المعبود
أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده وإعدام ما يضره والآلهة التي يعبدها المشركون من دون
الله لن تقدر على خلق ذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه فكيف ما هو أكبر منه ولا يقدرون على الانتصار
من الذباب إذا سلبهم شيئا مما عليهم من طيب ونحوه فيستنقذونه منه فلا هم قادرون على خلق الذباب
الذي هو من أضعف الحيوان ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه فلا أعجز من هذه الآلهة
ولا أضعف منها فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله تعالى وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله
سبحانه في بطلان الشرك وتجهيل أهله وتقبيح عقولهم والشهادة على أن الشياطين قد تتلاعب بهم أعظم
من تلاعب الصبيان بالكرة حيث أعطوا الإلهية التي من بعض لوازمها القدرة على جميع المقدورات
والإحاطة بجميع المعلومات والغنى عن جميع المخلوقات وأن يعمد إلى الرب في جميع الحاجات وتفريج
الكربات وإغاثة اللهفات وإجابة الدعوات فأعطوها صورا وتماثيل تمتنع عليها القدرة على مخلوقات الآلهة
الحق وأذلها وأصغرها وأحقرها ولو اجتمعوا لذلك وتعاونوا عليه وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء
آلهتهم أن هذا الخلق الأقل الأذل العاجز الضعيف لو اختطف منهم شيئا واستلبه فاجتمعوا على أن
يستنقذوه منه لعجزوا عن ذلك ولم يقدروا عليه ثم سوى بين العابد والمعبود في الضعف والعجز بقوله
ضعف الطالب