في مجتمع اختلط فيه الحابل بالنابل وذابت كثير من القيم والمبادئ ووجهت العقول بتوجيهات
ربما لا تؤمن بمسلماتنا العقيدية ، وربما تؤمن بها ولكن تراها لا تناسب هذا العصر، أو لا
يمكن العمل بها في عصر الإنترنت والفضائيات. ويرى بعضهم أنه آن للطفل الناشئ أن
ينطلق ويكون بصيراً على نفسه ويختار الوجهة التي يريدها دون أن يكون ثَم اعتبار لتنشئته
أو إعداده إعداداً يجعله قادرا على مواجهة سلبيات امتزاج الحضارات بخلفياتها العقدية والاجتماعية .
ويرى البعض الآخر أن الحل في عزل الطفل الناشئ - إلى حد كبير - عن المجتمعات
المنفتحة؛ خشية تأثره بسلبياتها أو ذوبانه في أفكارها .
ولعل الأول يخسر كثيرا إذ يصبح بلا هوية ولا شخصية، بل هو مسخ غير سوي ،أما الآخر
فمهما ترك الناس فلن يتركوه، ومهما حاول الابتعاد بنشئه فلا بد أن يكون لتلك القنوات تأثير
عليه بطريق غير مباشر.
فلابد أن يكون لنا وقفة جادة لدراسة حال الشباب غير المحصن وغير المهيأ تهيئة تجعله قادرا
على مواجهة ركام الحضارات المختلفة والمخالفة لمبادئه ومعتقده .
إن سن التكليف هو المرحلة التي يمكن أن يُحاسب عليها الفرد ويُؤاخذ على تقصيره أو خطئه.
وهذه المرحلة التي حددها المنهج الإسلامي بالبلوغ حددها علماء النفس غير المسلمين أيضا،
كما أكد ذلك (بياجيه) و (كولبرج) في نظريتهما، فالطفل في هذه المرحلة ينطلق من ذاته
وقناعته، ويفعل ما يراه صحيحا دون التعويل على القيود النظامية، ودون التقيد بآراء الآخرين،
فهو يسلك وفقا لمعاييره الذاتية ويشعر بتأنيب الضمير واحتقار الذات عند مخالفتها وإذا دققت
النظر أيقنت أن الأطفال الناشئة يتفاوتون في الرقابة الذاتية وفي احترامهم للمبادئ والأخلاق،
بل وفي تطبيقهم وقناعاتهم بالعقائد والعبادات ،فما هو السر في اختلافهم هذا؟
إن تعرضهم لأسباب وجود الرقابة الذاتية وتقويتها منذ الصغر هو المسؤول عن قوة دفاعهم
عن مبادئهم وأخلاقياتهم، فضلا عن تمسكهم بها وانقيادهم لها بقناعة.
وقد أجملت عدة أسباب لتنمية الرقابة الذاتية مستقية هذه الأسباب من الهدى النبوي؛ لأن
رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم - هو المربي الأول .
.أولاً: ربط الطفل الناشئ بالله :
ليكن أول شيء تعلمينه للطفل الناشئ تعريفه بخالقه وربه بأسهل عبارة وأيسر صورة، فإن
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين سأل الجارية "أين الله؟" وأشارت إلى السماء قال:
"أعتقها فإنها مؤمنة فأول شيء ينبغي أن يربى عليه الطفل الناشئ: معرفة الله بآياته
ومخلوقاته ورزقه ومعافاته، وذلك عن طريق الحوار المبسط مثال: من أعطاك هذا؟
فارتباط الطفل الناشئ وهو في سن الوعي والتميز بروابط اعتقادية.. وروحية.. وفكرية.. إلى
أن يتدرج يافعاً.. إلى أن يترعرع شاباً.. إلى أن يصبح رجلا.ً. إلى أن ينحدر كهلاً.. فإنه
بلا شك سيصبح عنده مناعة الإيمان وبرد اليقين وحصانة التقوى، مما يجعله يستعلي على
الجاهلية بكل تصوراتها واعتقاداتها .
إذا عمقت في الطفل حقيقة الإيمان ورسخت في قلبه العقيدة الإلهية.. فإنه ينشأ على المراقبة لله
والخشية منه والتسليم لذلك، وسيكون عند الطفل من حساسية الإيمان وإرهاف الضمير ما يكفه
عن المفاسد الاجتماعية والوساوس النفسية والمساوئ الخلقية ويكتمل عقلياً وسلوكياً .
ثانياً: ربط الطفل بالقرآن:
مع ما يردده البعض من أن القرآن يسهل على الصغير فهمه، وأن تحفيظه ما هو إلا نوع من
الببغاوية ،إلا أن هذا الرأي يشهد لضعفه الواقع ويخالف الحقيقة الشرعية؛ إذ يقول تعالى:
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} القمر:17.
وليس أسهل من القرآن في الحفظ ولا أبلغ في النفوس ولا أوقع أثرا. ولذا فإن أسلافنا
الصالحين ينصحون به و يشيرون إلى تعليم أولادهم القرآن الكريم وتحفيظهم إياه حتى تتقوم به
ألسنتهم وتسمو أرواحهم وتخشع به قلوبهم ويترسخ الإيمان في نفوسهم .
وقد لاحظت أثر القرآن في نفوس الأطفل الناشئات عليه حتى ظهر ذلك في سلوكهم مع
الوالدين والمعلمات والصديقات، بل وجدتهن أكثر استقراراً نفسياً وأحسن إيجابية من غيرهن،
كما يحسن ربط الطفل في أول تمييزه بالمسجد إذا كان ذكرا؛ ليتعلم حسن السمت ويجد
الصحبة الصالحة والقدوة الحسنة .
ثالثاً: تعميق الإيمان بصفات الله تعالى :
يزداد جانب المراقبة لله سبحانه وتعالى باستشعار أن الله سبحانه وتعالى يسمعنا ويرانا ويعلم
سرنا ونجوانا ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور،وبإشعارالطفل الناشئ أن الله لا تخفى
عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وأنه محيط بالأشياء كلها؛ لأنها تحت قدرته، لا يمكن
لشيء منها الخروج عن إرادته.
ويمكن باستخدام الأدلة البديهية الفطرية للإقناع، مثل الاستدلال على وجود شيء غير مرئي
بوجود دلائل مرئية أو حسية عليه، ومثل أن إعادة الشيء أسهل من إيجاده لأول مرة، ودلالة
الصنعة على الصانع والأثر على المؤثر.
ويمكن استخدام الحقائق والمكتشفات العلمية الحديثة للإقناع وإيجاد الكتب التي تكشف عن
حقائق علمية أوحيت إلى رسولنا – صلى الله عليه وسلم – قبل أربعة عشر قرناً ما كان
للإنسان أن يكتشفها وما كان للعلم أن يكشفها قبل هذه العصور، مثل كتاب (العلم يدعو
للإيمان) الذي ألفه (كريس موريسون) رئيس أكاديمية العلوم، كذلك كتب وأشرطة الإعجاز
العلمي للشيخ (عبد المجيد الزنداني)
إذن المبدأ التربوي الذي نستخلصه: إذا أردنا أن نربي الإيمان القوي يجب أن تكون التربية
أولاً بالعلم والتبصير بالأدلة العلمية، لا مجرد التلقينات فحسب ،ولله في كل تحريكه وتسكينة
أبدا شاهد وفي كل شئ له آية تدل على أنه واحد ،ولو لم يكن شاهد على خلق الله ووجوده إلا
هذا الإنسان بعجائب تركيبته {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفلا تُبْصِرُونَ} الذاريات:21.