إنّ الله تعالى وعد المؤمنين بالنصر المبين وجعل لهم من الشدّة فرجًا ومن العسر
يسرًا ومن الضيق سعة، وإنّ الدروس المستفادة من الهجرة كثيرة ومن جملتها ضرورة الصبر على
الشدائد والبلايا وكافّة أنواع الظلم والاستبداد، والصمود في وجه الباطل، والوقوف إلى جانب الحقِّ في
شجاعة وحزم وعزم، وإنّ بهجتنا بهذه الذكرى العظيمة تبعثنا على مضاعفة الجهد في سبيل نشر دين الله،
تبعثنا على مضاعفة الجهد في سبيل إعلاء كلمة لا إله إلا الله محمّد رسول الله بالتعلّم والتعليم.
ولقد كان لهجرة الفاروق الذي فرق بين الحقِّ والباطل قصّة شأنها شأن كل قصصه وأخباره العظيمة التي
تدلّ على حبّه لدين الله واستبساله في سبيل الله، ذلك أنه عندما جاء دور سيّدنا عمر بن الخطاب قبل
هجرة الرسول بسبعة أيام، خرج مهاجرًا وخرج معه أربعون من المستضعفين جمعهم عمر رضي الله
عنه في وضح النهار وامتشق سيفه وجاء (دار الندوة) وهو مكان تجتمع فيه قريش عادة، فقال الفاروق
عمر لصناديد قريش بصوت جهير: "يا معشر قريش من أراد منكم أن تفصل رأسه أو تثكله أمّه أو
تترمّل امرأته أو ييتّم ولده أو تذهب نفسه فليتبعني وراء هذا الوادي فإني مهاجر إلى يثرب". فما تجرّأ
أحد منهم أن يحول دونه ودون الهجرة لأنهم يعلمون أنه ذو بأس وقوّة وأنه إذا قال فعل .
ومن بركات الهجرة أنّ امرأة مِمّن سبقت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالهجرة مات ولدها معها في
الطريق إلى المدينة، أصابه مرض فمات فتملّكها الجزع فقالت: "اللهمّ إنك تعلم أني ما هاجرت إلا ابتغاء
مرضاتك ومحبّة فيك وفي نبيّك فلا تشمّت بي الأعداء"، فتحرّك ولدها من تحت الكفن، قام ولدها في
الحال أحياه الله تعالى، والله على كلِّ شىء قدير. قالت أمّه: "طعم وطعمنا".
وبقي حيا إلى خلافة سيّدنا عمر رضي الله عنه.
هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة المنوّرة في شهر صفر وليس في الأول من شهر محرّم
كما هو شائع واستقبله المؤمنون بالفرح واستبشر الناس بقدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسمّى
الرسول يثرب المدينة المنوّرة، وآخى بين أهلها بين المهاجرين والأنصار وبنى مسجده، وصار المسلمون
على قلب رجل واحد لا يفرّق بينهم طمع الدنيا ولا يباعد بينهم حسد ولا ضغينة، مثلهم كمثل البنيان
المرصوص يشدّ بعضه بعضًا ومثلهم في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو
تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى.
وأوّل بيت نزل فيه صلّى الله عليه وسلّم في المدينة المنوّرة بيت خالد بن زيد أبي أيوب الأنصاريّ،
وخالد بن زيد كان مِمّن حفظ هذه الأبيات التي قالها أسعد الحميري الذي كان يحكم بلاد اليمن قبل بعثة
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بستمائة عام، صفّـت له الجياد من اليمن إلى بلاد الشام فمرّ بالمدينة المنوّرة
التي كانت تسمّى يثرب ليكسر أهلها، فاجتمع به حبران من الأحبار المسلمين الذين كانا على دين موسى
عليه السلام وقرءا في التوراة أنها أي المدينة المنوّرة هي مهاجر نبي ءاخر الزمان أحمد ، فأنشد أسعد
الحميريّ تبع الأوسط:
شهدت على أحمد أنـه ***** رسول من الله باري النسمّ
ولو مدّ عمري إلى عمره ***** لكنت وزيـرًا له وابن عمّ
وجاهدت بالسيف أعداءه ***** وفرّجت عن صدره كل غمّ
قبل ستمائة عام من بعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال هذه الأبيات أسعد الحميري في مدح النبيّ
صلّى الله عليه وسلّم وتوارثها أهل المدينة خلفًا عن سلف.
اللهمّ أعد علينا هذه الذكرى بالأمن والأمان يا ربّ العالمين .