القدوم إلـى قباء
لما بلغ الأنصار خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كانوا يخرجون أول النهار لانتظار
قُدومه صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا اشتد الحر عادوا من حيث أتوا، فلما كان يوم الاثنين لاثنتي عشرة
خلت من شهر ربيع الأول سنة 14 للبعثة وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، و
كانت فرحة المسلمين بقدوم نبيهم عظيمة، حتى قال البراء بن عازب: (فما رأيت أهل المدينة فرحوا
بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعل الإماء يقلن: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم)[8].
و نزل صلى الله عليه وسلم فـي قباء فـي بني عمرو بن عوف، وكان نزوله على كلثوم بن هدم، و
هناك فـي قباء أسس أول مسجد فـي الإسلام، ومكث هناك يوم الاثنين والثلاثاء
و الأربعاء والخميس، فلما كان يوم الجمعة سار نحو المدينة فأدركته الجمعة فـي بني سالم بن عوف
فصلاها هناك، وكانت أول جمعة صلاها بالمدينة[9].
و كان صلى الله عليه وسلم لا يمر بدار من دور الأنصار إلا تلقاه أهلها وقالوا: هلم إلى العدد و العدة
والمنعة، فكان يقول لهم: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فسارت الناقة بأمر ربها حتى إذا أتت دار بني مالك
بن النجار بركت، وكان مربدا للتمر لسهل وسهيل غلامين يتيمين فـي حجر سعد بن زرارة[10]،
واحتمل أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري رحله إلى بيته[11]. وكانت مكرمة لهذا الصحابي الجليل
الذي شرف باستضافة خير خلق الله فـي بيته، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فـي القسم السفلي من
البيت، لكونه أرفق به وبمن يغشاه[12]، ثم تحت إلحاح أبي أيوب تحول صلى الله عليه وسلم إلى
القسم العلوي منه، وكان يصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فإذا جيئ به إليه سأل عن موضع
أصابعه، فـيتبع موضع أصابعه، فصنع له طعاما فـيه ثوم فلما رد إليه سأل عن موضع أصابع النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقيل له: لم يأكل، ففزع وصعد إليه فقال: أحرام هو ؟ فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: لا، ولكني أكرهه، قال: فإني اكره ما تكره أو ما كرهت [13]. وفـي رواية ابن اسحاق:
(فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، رددت عشاءك لم أرَ فـيه موضع يدك، وكنت إذا رددته علينا
تيممت أنا وأم أيوب موضع يدك نبتغي بذلك البركة. قال: إني وجدت فـيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل
أناجى، فأما أنتم فكلوه، قال: فأكلناه، ولم نصنع له تلك الشجرة بعد )[14].
و تلاحق المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ولم يبق منهم بمكة إلا مفتون أو
محبوس [15]، وقد اعترضت بعضهم مشاكل صحية أثناء مقامهم بالمدينة، من ذلك ما ترويه عائشة
قالت: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال، قالت: فدخلت عليهما،
فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك ؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح فـي أهله و الموت أدنى من شراك نعله
و كان بلال إذا اقلع عنه الحمى يرفع عقيرته يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة و هل يبدون لي شامة وطفـيل
قالت: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو
أشد، وصححها، وبارك لنا فـي صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها
بالجحفة)[16].
بناء المسجد
و فـي ذلك المكان الذي بركت فـيه ناقته بنى مسجده صلى الله عليه وسلم ، وكان كما سبق الذكر مربدا
لغلامين يتيمين وكان قد وهباه للنبي صلى الله عليه وسلم فأبى صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة
حتى ابتاعه منهما[17].
و عمل فـيه صلى الله عليه وسلم بنفسه ليرغب المسلمين فـي العمل فـيه، وقال قائلهم:
لئن قعدنا والنبي يعمـــــل لذاك منا العمل المضلل[18]
و أخذ صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن، وهو يقول:
هذا الحمال لا حمال خيبـــــر هذا أبر ربنــــــــــا وأطهـــر
و يقول:
اللهم إن الأجر أجر الآخرة فأرحم الأنصار والمهاجرة[19]
وكان كل واحد من المسلمين يحمل لبنة لبنة، إلا عمار بن ياسر فإنه كان يحمل لبنتين لبنتين، فرآه النبي
صلى الله عليه وسلم فنفض التراب عنه وقال: ويح عمار تقتله الفئة
الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار. قال عمار: أعوذ بالله من الفتن[20]