كان أبو العاص بن الربيع العبشمي القرشي، شابا موفور الشباب، بهي الرونق، رائع المجتلى، بسطت عليه النعمة ظلالها، و جلله الحسب بردائه، فغدا مثلا للفروسية العربية بكل ما فيها من خصائل الأنفة و الكبرياء، و مخايل المروءة و الوفاء، و مآثر الاعتزاز بتراث الآباء و الأجداد.
وقد ورث أبو العاص حب التجارة عن قريش صاحبة الرحلتين: رحلة الشتاء و رحلة الصيف، فكانت ركائبه لا تفتأ ذاهبة آيبة بين مكة و الشام، و كانت قافلته تضم المئة من الإبل و المئتين من الرجال، و كان الناس يدفعون إليه بأموالهم ليتجر لهم بها فوق ماله، لما بلوا من حذقه، و صدقه، و أمانته.
و كانت خالته خديجة بنت خويلد زوج محمد بن عبد الله – صلى الله عليه و سلم – تنزله من نفسها منزلة الولد من أمه، و تفسح له في قلبها و بيتها مكانا مرموقا ينزل فيه على الرحب و الحب.
و لم يكن حب محمد بن عبد الله لأبي العاص بأقل من حب خديجة له ولا أدنى.
و مرت الأعوام سراعا خفافا على بيت محمد بن عبد الله، فشبت زينب كبرى بناته، و تفتحت كما تتفتح زهرة فواحة الشذى بهية الرواء. فطمحت إليها نفوس أبناء السادة البهاليل من أشراف مكة...
و كيف لا؟!!... و هي من أعرق بنات قريش حسبا و نسبا، و أكرمهن أما و أبا، و أزكاهن خلقا و أدبا.
و لكن أنى لهم أن يظفروا بها؟!...
و قد حال دونهم و دونها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع فتى فتيان مكة!!
لم يمض على اقتران زينب بنت محمد بأبي العاص إلا سنوات معدودات حتى أشرقت بطاح مكة بالنور الإلهي الأسنى، و بعث الله نبيه محمدا – صلى الله عليه و سلم – بدين الهدى و الحق، و أمره بأن ينذر عشيرته الأقربين، فكان أول من آمن به من النساء زوجته خديجة بنت خويلد، و بناته زينب، و رقية، و أم كلثوم، و فاطمة، على الرغم من أن فاطمة كانت صغيرة آنذاك.
غير أن صهره أبا العاص، كره أن يفارق دين آبائه و أجداده، و أبى أن يدخل فيما دخلت فيه زوجته زينب، على الرغم من أنه كان يصفيها بصافي الحب، و يمحضها من محض الوداد.
و لما اشتد النزاع بين الرسول صلوات الله و سلامه عليه و بين قريش، قال بعضهم لبعض:
"ويحكم... إنكم قد حملتم عن محمد همومه بتزويج فتيانكم من بناته، فلو رددتموهن إليه لانشغل بهن عنكم..."
فقالوا: "نعم الرأي ما رأيتهم." و مشوا إلى أبي العاص و قالوا له:
"فارق صاحبتك يا أبا العاص، و ردها إلى بيت أبيها، و نحن نزوجك أي امرأة تشاء من كرائم عقيلات قريش."
فقال: "لا والله إني لا أفارق صاحبتي، و ما أحب أن لي بها نساء الدنيا جميعا..."
أما ابنتاه رقية و أم كلثوم فقد طلقتا و حملتا إلى بيته، فسر الرسول صلوات الله عليه بردهما إليه، و تمنى أن لو فعل أبو العاص كما فعل صاحباه، غير أنه ما كان يملك من القوة ما يرغمه به على ذلك، و لم يكن قد شرع – بعد – تحريم زواج المؤمنة من المشرك.
و لما هاجر الرسول صلوات الله و سلامه عليه إلى المدينة، و اشتد أمره فيها، و خرجت قريش لقتاله في "بدر" اضطر أبو العاص للخروج معهم اضطرارا...
إذ لم تكن به رغبة في قتال المسلمين، ولا أرب في النيل منهم، و لكن منزلته في قومه حملته على مسايرتهم حملا... وقد انجلت "بدر" عن هزيمة منكرة لقريش أذلت معاطس الشرك، و قصمت ظهور طواغيته، ففريق قتل، و فريق أسر، و فريق نجاه الفرار.
و كان في زمرة الأسرى أبو العاص زوج زينب بنت محمد صلوات الله و سلامه عليه.
فرض النبي عليه الصلاة و السلام على الأسرى فدية يفتدون بها أنفسهم من الأسر، و جعلها تتراوح بين ألف درهم و أربعة آلاف حسب منزلة الأسير في قومه و غناه.
و طفقت الرسل تروح و تغدو بين مكة و المدينة حاملة من الأموال ما تفتدي به أسراها.
فبعثت زينب رسولها إلى المدينة يحمل فدية زوجها أبي العاص، و جعلت فيها قلاده كانت أهدتها لها أمها خديجة بنت خويلد يوم زفتها إليه... فما رأى الرسول – صلى الله عليه و سلم – القلادة غشيت وجهه الكريم غلالة شفافة من الحزن العميق، و رق لابنته أشد الرقة، ثم التفت إلى أصحابه و قال:
(إن زينب بعثت بهذا المال لافتداء أبي العاص، فإن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها و تردوا عليها مالها فافعلوا).
فقالوا: "نعم، و نعمة عين يا رسول الله."
غير أن النبي عليه الصلاة و السلام اشترط على أبي العاص قبل إطلاق سراحه أن يسير إليه ابنته زينب من غير إبطاء...
فما كاد أبو العاص يبلغ مكة حتى بادر إلى الوفاء بعهده...
فأمر زوجته بالاستعداد للرحيل، و أخبرها بأن رسل أبيها ينتظرونها غير بعيد عن مكة، و أعد لها زادها و راحلتها، و ندب أخاه عمرو بن الربيع لمصاحبتها و تسليمها لمرافقيها يدا بيد.
تنكب عمرو بن الربيع قوسه، و حمل كنانته، و جعل زينب في هودجها، و خرج بها من مكة جهارا نهارا على مرأى من قريش، فهاج القوم و ماجوا، و لحقوا بهما حتى أدركوهما غير بعيد، و روعوا زينب و أفزعوها...
عند ذلك وتر عمرو قوسه، و نثر كنانته بين يديه، وقال: "والله لا يدنو رجل منها إلا وصعت سمها في نحره" ، و كان راميا لا يخطئ له سهم...
فأقبل عليه أبو سفيان بن حرب – و كان قد لحق بالقوم – و قال له:
"يا بن أخي، كف عنا نبلك حتى نكلمك"، فكف عنهم، فقال له:
"إنك لم تصب فيما صنعت...
فلقد خرجت بزينب علانية على رؤوس الناس، و عيوننا ترى... و قد عرفت العرب جميعها أمر نكبتنا في "بدر"، و ما أصابنا على يدي أبيها محمد.
فإذا خرجت بابنته علانية – كما فعلت – رمتنا القبائل بالجبن و وصفتنا بالهوان و الذل، فارجع بها، و استبقها في بيت زوجها أياما حتى إذا تحدث الناس بأننا رددناها فسلها من بين أظهرنا سرا، و ألحقها بأبيها، فما لنا بحبسها عنه حاجة..."
فرضي عمرو بذلك، و أعاد زينب إلى مكة...
ثم ما لبث أن أخرجها منها ليلا بعد أيام معدودات، و أسلمها إلى رسل أبيها يدا بيد كما أوصاه أخوه
أقام أبو العاص في مكه بعد فراق زوجته زمنا، حتى إذا كان قبيل الفتح بقليل، خرج إلى الشام في تجارة له، فلما قفل راجعا إلى مكة و معه عيره التي بلغت مئة بعير، و رجاله الذين نيفوا على مئة و سبعين رجلا، برزت له سرية من سرايا الرسول صلوات الله و سلامه عليه قريبا من المدينة، فأخذت العير و أسرت الرجال، و لكن أبا العاص أفلت منها فلم تظفر به.
فلما أرخى الليل سدوله و استتر أبو العاص بجنح الظلام، و دخل المدينه خائفا يترقب، و مضى حتى وصل إلى زينب، و استجار بها فأجارته...
و لما خرج الرسول صلوات الله و سلامه عليه لصلاة الفجر، و استوى قائما في المحراب، و كبر للإحرام و كبر الناس بتكبيره، صرخت زينب من صفة النساء و قالت:
"أيها الناس، أنا زينب بنت محمد، و قد أجرت أبا العاص فأجيروه. فلما سلم النبي – صلى الله عليه و سلم – من الصلاة، التفت إلى الناس و قال:
(هل سمعتم ما سمعت؟!).
قالوا: نعم يا رسول الله.
قال: (و الذي نفسي بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتموه، و إنه يجير من المسلمين أدناهم)، ثم انصرف إلى بيته و قال لابنته:
(أكرمي مثوى أبي العاص، و اعلمي أنك لا تحلين له).
ثم دعا رجال السرية التي أخذت العير و أسرت الرجال و قال لهم:
(إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، و قد أخذتم ماله، فإن تحسنوا و تردوا عليه الذي له، كان ما نحب، و إن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم، و أنتم به أحق).
فقالوا: "بل نرد عليه ماله يا رسول الله".
فلما جاء لأخذه قالوا له: "يا أبا العاص، إنك في شرف من قريش، و أنت ابن عم رسول الله و صهره، فهل لك أن تسلم، و نحن ننزل لك عن هذا المال كله فتنعم بما معك من أموال أهل مكة و تبقى معنا في المدينة؟."
فقال: "بئس ما دعوتموني أن أبدأ ديني الجديد بغدرة."
مضى أبو العاص بالعير و ما عليها إلى مكة فلما بلغها أدى لكل ذي حق حقه، ثم قال:
"يا معشر قريش هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟."
قالوا: "لا... و جزاك الله عنا خيرا، فقد وجدناك وفيا كريما."
قال: "أما و إني قد وفيت لكم حقوقكم، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله...
والله ما منعني من الإسلام عند محمد في المدينة إلا خوفي أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم...
فلما أداها الله إليكم، و فرغت ذمتي منها أسلمت..."
ثم خرج حتى قدم على رسول الله – صلى الله عليه و سلم – فأكرم وفادته و رد إليه زوجته، و كان يقول عنه:
(حدثني فصدقني، و وعدني فوفى لي).