الراية إلى سيف من سيوف الله
وحينئذ تقدم رجل من بني عَجْلان ـ اسمه ثابت بن أقرم ـ فأخذ الراية وقال: يا معشر المسلمين،
اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما
أخذ الراية قاتل قتالاً مريراً، فقد روي البخاري عن خالد بن الوليد قال: لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة
تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية. وفي لفظ آخر: لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة
أسياف، وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مؤتة ـ مخبراً بالوحي، قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من
ساحة القتال: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب ـ وعيناه
تذرفان ـ حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم).
نهاية المعركة
ومع الشجاعة البالغة والبسالة والضراوة المريرتين، كان مستغرباً جداً أن ينجح هذا الجيش الصغير في
الصمود أما تيارات ذلك البحر الغطمطم من جيوش الروم. ففي ذلك الوقت أظهر خالد بن الوليد مهارته
ونبوغه في تخليص المسلمين مما ورطوا أنفسهم فيه.
واختلفت الروايات كثيراً فيما آل إليه أمر هذه المعركة أخيراً. ويظهر بعد النظر في جميع الروايات أن
خالد بن الوليد نجح في الصمود أمام جيش الرومان طول النهار، في أول يوم من القتال. وكان يشعر
بمسيس الحاجة إلى مكيدة حربية تلقي الرعب في قلوب الرومان حتى ينجح في الانحياز بالمسلمين من
غير أن يقوم الرومان بحركات المطاردة. فقد كـان يعرف جيداً أن الإفلات من براثنهم صعب جداً لو
انكشف المسلمون، وقام الرومان بالمطاردة.
فلما أصبح اليوم الثاني غير أوضاع الجيش، وعبأه من جديد، فجعل مقدمته ساقه، وميمنته ميسرة،
وعلى العكس، فلما رآهم الأعداء أنكروا حالهم، وقالوا: جاءهم مدد، فرعبوا، وصار خالد ـ بعد أن
تراءي الجيشان، وتناوشا ساعة ـ يتأخر بالمسلمين قليلاً قليلاً، مع حفظ نظام جيشه، ولم يتبعهم الرومان
ظناً منهم أن المسلمين يخدعونهم، ويحاولون القيام بمكيدة ترمي بهم في الصحراء.
وهكذا انحاز العدو إلى بلاده، ولم يفكر في القيام بمطاردة المسلمين ونجح المسلمون في الانحياز
سالمين، حتى عادوا إلى المدينة.