رؤساء قريش يفاوضون رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكأن رجاء قريش لم ينقطع
بما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم عتبة على اقتراحاته؛ لأنه لم يكن صريحًا في
الرفض
أو القبول، بل تلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم آيات لم يفهمها عتبة، ورجع
من حيث جاء، فتشاور رؤساء قريش فيما
بينهم وفكروا في كل جوانب القضية، ودرسوا كل
المواقف بروية وتريث، ثم اجتمعوا يومًا عند ظهر الكعبة بعد غروب
الشمس، وأرسلوا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم يدعونه، فجاء مسرعًا يرجو خيرًا، فلما جلس إليهم قالوا له
مثل ما قال
عتبة، وعرضوا عليه نفس المطالب التي عرضها عتبة. وكأنهم ظنوا أنه لم
يثق بجدية هذا العرض حين عرض عتبة
وحده، فإذا عرضوا هم أجمعون يثق ويقبل، ولكن قال
لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بي ما تَقُولُون، ما جِئْتُكُم
بما
جِئْتُكُم بِه أَطْلُب أَمْوَالكُم ولا الشَّرف فيكم، ولا المُلْكَ عليكم، ولكنّ
الله بَعَثَنِى إلَيْكُم رَسُولًا، وَ أَنْزَلَ علىَّ كِتابًا، وأَمَرَنِى
أنْ
أَكُونَ لَكُم بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُم رِسَالاتِ ربي، وَنَصَحْتُ
لَكُمْ، فإِنْ تَقْبَلُوا مِنّى ما جِئْتُكُم بِه فَهُوَ حَظُّكُم في الدُنيا
والآخرة،
وإنْ تَرُدُّوا علىّ أَصْبِر لأمْرِ الله ِ حتّى يَحْكُم الله ُ بَيْنِى
وَ بَيْـنَكُم). أو كما قال.
فانتقلوا إلى نقطة أخرى، وطلبوا منه أن
يسأل ربه أن يسير عنهم الجبال، ويبسط لهم البلاد، ويفجر فيها الأنهار، ويحيى
لهم
الموتى ـ ولا سيما قصى بن كلاب ـ فإن صدقوه يؤمنون به. فأجاب بنفس ما سبق من
الجواب.
فانتقلوا إلى نقطة ثالثة، وطلبوا منه أن يسأل ربه أن يبعث له
ملكًا يصدقه، ويراجعونه فيه، وأن يجعل له جنات وكنوزًا
وقصورًا من ذهب وفضة،
فأجابهم بنفس الجواب.
فانتقلوا إلى نقطة رابعة، وطلبوا منه العذاب: أن
يسقط عليهم السماء كسفًا، كما يقول ويتوعد، فقال: (ذلك إلى الله ، إن
شاء
فعل). فقالوا: أما علم ربك أنا سنجلس معك، ونسألك ونطلب منك، حتى يعلمك ما
تراجعنا به، وما هو صانع بنا إذا لم نقبل.
وأخيرًا هددوه أشد التهديد،
وقالوا:أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا، فقام رسول الله صلى
الله عليه
وسلم عنهم، وانصرف إلى أهله حزينًا أسفا لما فاته ما طمع من قومه.
عزم أبي جهل على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولما انصرف رسول
الله صلى الله عليه وسلم عنهم خاطبهم أبو جهل في كبريائه وقال: يا معشر قريش، إن
محمدًا قد أبي
إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم
آلهتنا، وأني أعاهد الله لأجلسن له بحجر ما أطيق حمله،
فإذا سجد في صلاته فضخت به
رأسه، فأسلمونى عند ذلك أو امنعونى، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم،
قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدًا، فامض لما تريد.
فلما أصبح أبو جهل،
أخذ حجرًا كما وصف، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله
صلى الله
عليه وسلم كما كان يغدو، فقام يصلي، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم
ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل
الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزمًا ممتقعًا لونه، مرعوبًا قد
يبست
يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا له: ما لك يا
أبا الحكم؟ قال: قمت إليه
لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لى
دونه فَحْلٌ من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هَامَتِه، ولا مثل قَصَرَتِه ولا
أنيابه لفحل قط، فَهَمَّ بى أن يأكلنى.
قال ابن إسحاق: فذكر لى أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: (ذلك جبريل عليه السلام لو دنا لأخذه)