الرجوع إلى المدينة، ونوادر الحب والتفاني
ولما فرغ رسول الله من دفن الشهداء والثناء على الله والتضرع إليه، انصرف راجعاً إلى المدينة، وقد
ظهرت له نوادر الحب والتفاني من المؤمنات الصادقات، كما ظهرت من المؤمنين في أثناء المعركة.
لقيته في الطريق حَمْنَة بنت جحش، فَنُعِي إليها أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعي
لها خالها حمزة بن عبد المطلب، فاسترجعت واستغفرت، ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير، فصاحت
وولوت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن زوج المرأة منها لبِمَكان) .
ومر بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها بأحد، فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه،
فأشير إليها حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جَلَلٌ ـ تريد صغيرة.
وجاءت إليه أم سعد بن معاذ تعدو، وسعد آخذ بلجام فرسه، فقال: يا رسول الله، أمي، فقال: (مرحباً
بها)، ووقف لها، فلما دنت عزاها بابنها عمرو بن معاذ. فقالت: أما إذ رأيتك سالماً فقد اشتويت المصيبة
ـ أي استقللتها ـ ثم دعا لأهل من قتل بأحد، وقال: (يا أم سعد، أبشري وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا
في الجنة جميعاً، وقد شفعوا في أهلهم جميعاً). قالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم
قالت: يا رسول الله، ادع لمن خلفوا منهم، فقال: (اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن
الخَلفَ على من خُلِّفُوا) .
الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة
وانتهي رسول الله صلى الله عليه وسلم مساء ذلك اليوم ـ يوم السبت السابع من شهر شوال سنة 3هـ ـ
إلى المدينة. فلما انتهي إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة، فقال: (اغسلي عن هذا دمه يا بنية، فوالله لقد
صدقني اليوم)، وناولها على بن أبي طالب سيفه، فقال: وهذا أيضاً فاغسلي عنه دمه، فوالله لقد صدقني
اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لئن كنت صدقت القتال، لقد صدق معك سهل بن حُنَيف وأبو دُجَانة) .