وكانت في يثرب منهم ثلاث قبائل مشهورة:
1ـ بنو قَيْنُقَاع : وكانوا
حلفاء الخزرج، وكانت ديارهم داخل المدينة.
2ـ بنو النَّضِير: وكانوا حلفاء
الخزرج، وكانت ديارهم بضواحى المدينة.
3ـ بنو قُرَيْظة: وكانوا حلفاء
الأوس، وكانت ديارهم بضواحى المدينة.
وهذه القبائل هي التي كانت تثير
الحروب بين الأوس والخزرج منذ أمد بعيد، وقد ساهمت بأنفسها في حرب بُعَاث، كل مع
حلفائها.
وطبعًا فإن اليهود لم يكن يرجى منهم أن ينظروا إلى الإسلام إلا
بعين البغض والحقد؛ فالرسول لم يكن من أبناء جنسهم حتى
يُسَكِّن جَأْشَ عصبيتهم
الجنسية التي كانت مسيطرة على نفسياتهم وعقليتهم، ودعوة الإسلام لم تكن إلا دعوة
صالحة تؤلف بين
أشتات القلوب، وتطفئ نار العداوة والبغضاء، وتدعو إلى التزام
الأمانة في كل الشئون، وإلى التقيد بأكل الحلال من طيب
الأموال، ومعنى كل ذلك أن
قبائل يثرب العربية ستتآلف فيما بينها، وحينئذ لابد من أن تفلت من براثن اليهود،
فيفشل نشاطهم
التجارى، ويحرمون أموال الربا الذي كانت تدور عليه رحى ثروتهم، بل
يحتمل أن تتيقظ تلك القبائل، فتدخل في حسابها
الأموال الربوية التي أخذتها اليهود،
وتقوم بإرجاع أرضها وحوائطها التي أضاعتها إلى اليهود في تأدية الربا.
كان اليهود يدخلون كل ذلك في حسابهم منذ عرفوا أن دعوة الإسلام تحاول
الاستقرار في يثرب؛ ولذلك كانوا يبطنون أشد
العداوة ضد الإسلام، وضد رسول الله صلى
الله عليه وسلم منذ أن دخل يثرب، وإن كانوا لم يتجاسروا على إظهارها إلا بعد حين.
ويظهر ذلك جليًا بما رواه ابن إسحاق عن أم المؤمنين صفية رضي الله عنها قال
ابن إسحاق: حدثت عن صفية بنت حيي
بن أخطب أنها قالت: كنت أحَبَّ ولد أبي إليه،
وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذإني دونه. قالت: فلما
قدم
رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي؛
حيى بن أخطب، وعمى أبو
ياسر بن أخطب مُغَلِّسِين، قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع
غروب الشمس، قالت: فأتيا كَالَّيْن كسلانين ساقطين يمشيان الهُوَيْنَى.
قالت:
فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلىَّ واحد منهما، مع ما بهما من
الغم. قالت: وسمعت عمى أبا ياسر،
وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟
قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟
قال:
عداوته والله ما بقيت.
ويشهد بذلك أيضًا ما رواه البخاري في إسلام
عبد الله بن سَلاَم رضي الله عنه فقد كان حبرًا من فطاحل علماء اليهود، ولما
سمع
بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في بني النجار جاءه مستعجلًا، وألقى
إليه أسئلة لا يعلمها إلا نبى، ولما
سمع ردوده صلى الله عليه وسلم عليها آمن به
ساعته ومكانه، ثم قال له: إن اليهود قوم بُهْتٌ، إن علموا بإسلامي قبل أن
تسألهم
بَهَتُونِى عندك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت اليهود، ودخل عبد الله
بن سلام البيت. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: [أي رجل فيكم عبد الله بن
سلام؟] قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا ـ وفي لفظ: سيدنا
وابن سيدنا. وفي لفظ آخر: خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا ـ فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: [أفرأيتم إن
أسلم عبد الله؟] فقالوا: أعاذه
الله من ذلك [مرتين أو ثلاثا]، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا
الله، وأشهد أن
محمدًا رسول الله، قالوا: شرّنا وابن شرّنا، ووقعوا فيه. وفي
لفظ: فقال: يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا
هو، إنكم
لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق. فقالوا: كذبت.
وهذه أول تجربة
تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود في أول يوم دخل فيه المدينة.
وهذه هي الظروف والقضايا الداخلية التي واجهها الرسول صلى الله عليه وسلم
حين نزل بالمدينة.
أما من ناحية الخارج فكان يحيط بها من يدين بدين قريش،
وكانت قريش ألـد عـدو للإسلام والمسلمين، جربت عليهم طوال
عشرة أعوام ـ حينما كان
المسلمون تحت أيديها ـ كل أساليب الإرهاب والتهديد والمضايقة والتعذيب، والمقاطعة
والتجويع،
وأذاقتهم التنكيلات والويلات، وشنت عليهم حربًا نفسية مضنية مع دعاية
واسعة منظمة، ولما هاجر المسلمون إلى المدينة
صادرت أرضهم وديارهم وأموالهم، وحالت
بينهم وبين أزواجهم وذرياتهم، بل حبست وعذبت من قدرت عليه، ولم تقتصر
على هذا، بل
تآمرت على الفتك بصاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم، والقضاء عليه وعلى دعوته، ولم
تَأْلُ جهدًا في تنفيذ
هذه المؤامرة. فكان من الطبيعى جدًا، حينما نجا المسلمون
منها إلى أرض تبعد نحو خمسمائة كيلو متر، أن تقوم بدورها
السياسى والعسكرى، لما لها
من الصدارة الدنيوية والزعامة الدينية بين أوساط العرب بصفتها ساكنة الحرم ومجاورة
بيت الله
وسدنته، وتغرى غيرها من مشركي الجزيرة ضد أهل المدينة، وفعلًا قامت بذلك
كله حتى صارت المدينة محفوفة بالأخطار،
وفي شبه مقاطعة شديدة قَلَّتْ لأجلها
المستوردات، في حين كان عدد اللاجئين إليها يزيد يومًا بعد يوم، وبذلك كانت [حالة
الحرب] قائمة بين هؤلاء الطغاة من أهل مكة ومن دان دينهم، وبين المسلمين في وطنهم
الجديد.
وكان من حق المسلمين أن يصادروا أموال هؤلاء الطغاة كما صودرت
أموالهم، وأن يديلوا عليهم من التنكيلات بمثل ما
أدالوا بها، وأن يقيموا في سبيل
حياتهم العراقيل كما أقاموها في سبيل حياة المسلمين، وأن يكيلوا لهؤلاء الطغاة
صاعًا بصاع حتى لا يجدوا سبيلًا لإبادة المسلمين واستئصال خضرائهم.
وهذه
هي القضايا والمشاكل الخارجية التي واجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما ورد
المدينة، وكان عليه أن يعالجها بحكمة بالغة حتى يخرج منها مكللًا بالنجاح.
وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعالجة كل القضايا أحسن قيام،
بتوفيق من الله وتأييده، فعامل كل قوم بما كانوا
يستحقونه من الرأفة والرحمة أو
الشدة والنكال،وذلك بجانب قيامه بتزكية النفوس وتعليم الكتاب والحكمة، ولا شك أن
جانب
التزكية والتعليم والرأفة والرحمة كان غالبًا على جانب الشدة والعنت ـ حتى عاد
الأمر إلى الإسلام وأهله في بضع سنوات، وسيجد القارئ كل ذلك جليًا في الصفحات
الآتية.