الإســراء والمعــراج
وبينما النبي صلى الله عليه وسلم يمـر بهذه
المرحلة، وأخذت الدعوة تشق طريقًا بين النجاح والاضطهـاد، وبـدأت
نجـوم الأمل تتلمح
في آفاق بعيدة، وقع حادث الإسراء والمعـراج. واختلف في تعيين زمنه على أقوال
شتى:
1ـ فقيل: كان الإسراء في السنة التي أكرمه الله فيها بالنبوة،
واختاره الطبرى.
2ـ وقيل: كان بعد المبعث بخمس سنين، رجح ذلك النووى
والقرطبى.
3ـ وقيل: كان ليلة السابع والعشرين من شهر رجب سنة 10 من
النبوة.
4ـ وقيل: قبل الهجرة بستة عشر شهرًا، أي في رمضان سنة 12 من
النبوة.
5ـ وقيل: قبل الهجرة بسنة وشهرين، أي في المحرم سنة 13 من
النبوة.
6ـ وقيل: قبل الهجرة بسنة، أي في ربيع الأول سنة 13 من النبوة.
وَرُدَّتِ الأقوالُ الثلاثة الأول بأن خديجة رضي الله عنها توفيت في رمضان سنة
عشر من النبوة، وكانت وفاتها قبل أن
تفرض الصلوات الخمس. ولا خلاف أن فرض الصلوات
الخمس كان ليلة الإسراء. أما الأقوال الثلاثة الباقية فلم أجد ما
أرجح به واحدًا
منها، غير أن سياق سورة الإسراء يدل على أن الإسراء متأخر جدًا.
وروى
أئمة الحديث تفاصيل هذه الوقعة، وفيما يلي نسردها بإيجاز:
قال ابن
القيم: أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده على الصحيح من المسجد الحرام
إلى بيت المقدس، راكبًا
على البُرَاق، صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام، فنزل
هناك، وصلى بالأنبياء إمامًا، وربط البراق بحلقة باب المسجد.
ثم عرج به
تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل ففتح له، فرأي هنالك
آدم أبا البشر، فسلم
عليه، فرحب به ورد عليه السلام، وأقر بنبوته، وأراه الله أرواح
السعداء عن يمينه، وأرواح الأشقياء عن يساره.
ثم عرج به إلى السماء
الثانية، فاستفتح له، فرأي فيها يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم، فلقيهما وسلم
عليهما، فردا عليه
ورحبا به، وأقرّا بنبوته.
ثم عرج به إلى السماء الثالثة،
فرأي فيها يوسف، فسلم عليه فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته.
ثم عرج به إلى
السماء الرابعة، فرأي فيها إدريس، فسلم عليه، فرد عليه، ورحب به، وأقر بنبوته.
ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فرأي فيها هارون بن عمران، فسلم عليه، فرد عليه
ورحب به، وأقر بنبوته.
ثم عرج به إلى السماء السادسة، فلقى فيها موسى بن
عمران، فسلم عليه، فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته.
فلما جاوزه بكى موسى، فقيل
له: ما يبكيك ؟ فقال: أبكى؛ لأن غلامًا بعث من بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر
مما
يدخلها من أمتى.
ثم عرج به إلى السماء السابعة، فلقى فيها إبراهيم
عليه السلام، فسلم عليه، فرد عليه، ورحب به، وأقر بنبوته.
ثم رفع إلى
سدرة المنتهى، فإذا نَبْقُها مثل قِلاَل هَجَر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، ثم
غشيها فراش من ذهب، ونور
وألوان، فتغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من
حسنها. ثم رفع له البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم
سبعون ألف ملك ثم لا
يعودون. ثم أدخل الجنة، فإذا فيها حبائل اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك. وعرج به
حتى ظهر لمستوى
يسمع فيه صَرِيف الأقلام.
ثم عرج به إلى الجبّار جل
جلاله، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه
خمسين
صلاة، فرجع حتى مرّ على موسى فقال له: بم أمرك ربك؟ قال: [بخمسين
صلاة]. قال: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى
ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت
إلى جبريل، كأنه يستشيره في ذلك، فأشار: أن نعم إن شئت، فعلا به جبريل حتى
أتى به
الجبار تبارك وتعالى، وهو في مكانه ـ هذا لفظ البخاري في بعض الطرق ـ فوضع عنه
عشرًا، ثم أنزل حتى مر
بموسى، فأخبره، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فلم
يزل يتردد بين موسى وبين الله عز وجل، حتى جعلها خمسًا،
فأمره موسى بالرجوع وسؤال
التخفيف، فقال: [قد استحييت من ربي، ولكني أرضى وأسلم]، فلما بعد نادى مناد:
قد
أمضيت فريضتى وخففت عن عبادى. انتهي.
ثم ذكر ابن القيم خلافًا في
رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه تبارك وتعالى، ثم ذكر كلامًا لابن تيمية بهذا الصدد،
وحاصل
البحث أن الرؤية بالعين لم تثبت أصلًا، وهو قول لم يقله أحد من الصحابة.
وما نقل عن ابن عباس من رؤيته مطلقًا ورؤيته
بالفؤاد فالأول لا ينافي الثاني.
ثم قال: وأما قوله تعالى في سورة النجم: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}
[النجم:8] فهو غير الدنو الذي في قصة الإسراء، فإن الذي في
سورة النجم هو دنو
جبريل وتدليه، كما قالت عائشة وابن مسعود، والسياق يدل عليه، وأما الدنو والتدلى في
حديث
الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تبارك وتعالى وتدليه، ولا تعرض في سورة
النجم لذلك، بل فيه أنه رآه نزلة
أخرى عند سدرة المنتهى. وهذا هو جبريل، رآه محمد
صلى الله عليه وسلم على صورته مرتين: مرة في الأرض، ومرة عند
سدرة المنتهى، والله
أعلم. انتهى.
وقد جاء في بعض الطرق أن صدره صلى الله عليه وسلم شق في
هذه المرة أيضًا،