إن الأمور ليست بالضعف ولا القوة ولا الصغر ولا الكبر في الجثة:
فرب صغيرٍ ضعيفٍ قد بلغ حيلته ودهائه ورأيه ما يعجز عنه كثير
من الأقوياء. أولم يبلغك أن غراباً ضعيفاً احتال لأسود(ثعبان) حتى
قتله?
قال كليلة: وكيف كان ذلك?
قال دمنة: زعموا أن غراباً كان له
وكرٌ في شجرةٍ على جبلٍ؛ وكان قريباً منه حجر ثعبانٍ أسود، فكان
الغراب إذا فرخ عمد الأسود إلى فراخه فأكله؛ فبلغ ذاك من الغراب
وأحزنه، فشكا ذلك إلى صديق له من بنات آوى؛
وقال له: أريد
مشاورتك في أمرٍ قد عزمت عليه؛
قال: وما هو?
قال الغراب: قد عزمت أن أذهب اليوم إلى الأسود إذا نام، فأنقر عينيه، فأفقأهما،
لعلي أستريح منه.
قال ابن آوى: بئس الحيلة التي احتلت؛ فالتمس أمراً
تصيب فيه بغيتك من الأسود، من غير أن تغرر بنفسك وتخاطر بها.
وإياك أن يكون مثلك مثل العلجوم الذي أراد قتل السرطان فقتل نفسه.
قال الغراب: وكيف كان ذلك?
قال ابن آوى: زعموا أن علجوماً عشّش في أجمةٍ كبيرة السمك؛ فعاش
بها ما عاش؛ ثم هرم فلم يستطع صيداً؛ فأصابه جوعٌ وجهدٌ شديدٌ؛
فجلس حزيناً يلتمس الحيلة في أمره؛ فمر به سرطانٌ، فرأى حالته وما
هو عليه من الكآبة والحزن؛
فدنا منه وقال: مالي أراك أيها الطائر
هكذا حزيناً كئيباً?
قال العلجوم: وكيف لا أحزن وقد كنت أعيش من
صيد ما ها هنا من السمك? وإني قد رأيت اليوم صيادين قد مرا بهذا
المكان؛
فقال أحدهما لصاحبه: إن ها هنا سمكاً كثيراً أفلا نصيده
أولاً?
فقال الآخر: إني قد رأيت في مكان كذا سمكاً أكثر من هذا
السمك، فلنبدأ بذلك، فإذا فرغنا منه جئنا إلى هذا فأفنيناه. وقد علمت أنهما إذا فرغا مما هناك، انتهيا إلى هذه الأجمة فاصطادا ما فيها؛ فإذا
كان ذلك فهو هلاكي ونفاذ مدتي. فانطلق السرطان من ساعته إلى
جماعة السمك فأخبرهن بذلك؛ فأقبلن إلى العلجوم فاستشرنه؛
وقلن له:
إنا أتينا لك لتشير علينا: فإن ذا العقل لا يدع مشاورة عدوه.
قال العلجوم: أما مكابرة الصيادين فلا طاقة لي بها؛ ولا أعلم حيلةً إلا
المصير إلى غديرٍ قريبٍ من ها هنا، فيه سمكٌ ومياهٌ عظيمةٌ وقصبٌ،
فإن استطعن الانتقال إليه، كان فيه صلاحكن وخصبكن.
فقلن له: ما
يمن علينا بذلك غيرك. فجعل العلجوم يحمل في كل يوم سمكتين حتى
ينتهي بهما إلى بعض التلال فيأكلهما؛ حتى إذا كان ذات يوم جاء
لأخذ السمكتين؛
فجاءه السرطان؛ فقال له: إني أيضاً قد أشفقت من
مكاني هذا واستوحشت منه فاذهب بي إلى ذلك الغدير؛ فاحتمله
وطار به، حتى إذا دنا من التل الذي كان يأكل السمك فيه نظر
السرطان فرأى عظام السمك مجموعةً هناك؛ فعلم أن العلجوم هو
صاحبها؛ وأنه يريد به مثل ذلك.
فقال في نفسه: إذا لقي الرجل عدوه
في المواطن التي يعلم أنه فيها هالك. سواءٌ قاتل أم لم يقاتل؛ كان حقيقاً أن يقاتل عن نفسه كرماً وحفاظاً ، ثم أهوى بكلبتيه على عنق
العلجوم، فعصره فمات؛ وتخلص السرطان إلى جماعة السمك
فأخبرهن بذلك. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن بعض الحيلة
مهلكة للمحتال ولكني أدلك على أمرٍ، إن أنت قدرت عليه، كان فيه
هلاك الأسود من غير أن تهلك به نفسك، وتكون فيه سلامتك.
قال الغراب وما ذاك؟
قال ابن آوى: تنطلق فتبصر في طيرانك: لعلك أن
تظفر بشيءٍ من حلي النساء فتخطفه؛ ولا تزال طائراً واقعاً، بحيث
لا تفوت العيون، حتى تأتي حجر الأسود فترمي بالحلي عنده. فإذا
رأى الناس ذلك أخذوا حليهم وأراحوك من الأسود. فانطلق الغراب
محلقا في السماء؛ فوجد امرأةً من بنات العظماء فوق سطح تغتسل؛
وقد وضعت ثيابها وحليها ناحيةً؛ فانقض واختطف من حليها عقداً،
وطار به، فتبعه الناس؛ ولم يزل طائراً واقعاً، بحيث يراه كل أحدٍ؛
حتى انتهى الأمر إلى جحر الأسود؛ فألقى العقد عليه، والناس
ينظرون إليه. فلما أتوه أخذوا العقد وقتلوا الأسود. وإنما ضربت لك
هذا المثل لتعلم أن الحيلة تجرئ مالا تجزئ القوة.