2. الإغواء بالعيش في سلام مع التنازل عن بعض الأركان :
روى ابن كثير في تفسيره ، وابن هشام في سيرته أن مشركي قريش
أرسلوا الأسود بن عبدالمطلب ، والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف ،
والعاص بن وائل ، فقالوا : يا محمد ، هلم فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ،
فنشترك نحن وأنت في الأمر ، فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد ، كنا قد
أخذنا منه بحظنا ، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد ، كنت قد أخذت بحظك
منه ، فأنزل الله فيهم "قل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) ...
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)" [الكافرون : 1- 6] "
هذه الدعوة إلى خلط الأديان ، وتذويب الفوارق وتضييع الأركان ، واجهت
النبي في وقت اشتد إيذاء قريش له وأصحابه، وكان يمكن أن تكون
مخرجا لتوقي غضبة قريش بالتنازل عن ركن أساسي وهو التوحيد
الصافي، والتجرد الكافي، والإخلاص الشافي في عبادة الله وحده لا شريك
له في الخلق أو الأمر لكن النبي امتثل أمر ربه، وأعلن قومه بهذا
الوضوح ، ومن تكرار آيات القرآن يبدو أن هذا العرض تكرر بأشكال
أخري ، وتم الإلحاح عليه مرات حتى ينعم بالسلام القائم على التنازل عن
الثوابت ، ولكن الله تعالى كان دائما يثبته في قوله تعالى :" قُلْ إِنِّي نُهِيتُ
أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ
مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا
تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ "[الأنعام : 56 -57] .
بهذا المنطق يجب أن نواجه كل الدعاة إلى التنازلات عن ثوابتنا العقدية أو
الأخلاقية أو التشريعية ، وهي دعوات تقدم بين يديها إغراءات شتى من
الأموال، والمراكز المرموقة ، والسفريات العديدة ، ويستجيب لها ضعاف
القوم وهناك أمثلة عايشتها بعد أحداث سبتمبر حيث كنت في الولايات
المتحدة الأمريكية ، ومن هذه الأمثلة ما يلي :-
أ- في مدينة سكرمنتو ـ ولاية كاليفورنيا قام أحد المسلمين بالدعوة إلى
بناء مجمع للأديان (مسجد وكنيسة ومعبد يهودي) في حزام واحد ،
ويخرج كلٍ من مصلاه إلى صالات اجتماعية ورياضية وفنية ليتعامل مع
الآخر تعاملا مفتوحا لا تراعي فيه غير ضابط واحد أننا جميعا أمريكان ، ونعيش على أرض واحدة .
ب- في مدينة هيوستن ـ ولاية تكساس ـ بني مسجد كان في مدخله
إعلان نحن نفهم القرآن بالطريقة الأمريكية ، وأول صلاة جمعة خطب
حاخام يهودي الخطبة الأولى ، وقام قسيس بالخطبة الثانية ، وصلى إمام مسلم بالمصلين .
ج- أول خطبة جمعة ـ بعد أحداث سبتمبرـ في أكبر مسجد في مدينة
كليفلاند ـ ولاية أوهايو قام الخطيب بإعلان أن جميع الأديان صحيحة ،
وأن أي إنسان يتبع تعاليم دينه سواء كان يهوديا أو نصرانيا ، أو مجوسيا
أو .... فهو من أهل الجنة ، ونحن نتعامل هنا فقط كأمريكان .
د- أول عدد صدر من مجلة (Horizon) هورايزون الصادرة عن الـ (ISNA) أحد أكبر المؤسسات الإسلامية في أمريكا بعد أحداث سبتمبر
كتب أحد الباحثين أن الآيات [البقرة62] و [المائدة:69] و [الحج :17]
تصحح أديان اليهود والنصارى والمجوس والصابئين و.. ، وعليه يجب أن
تفتح العلاقات معهم كأخوة في الإنسانية فقط.
هذه التنازلات تجري على أرضنا الإسلامية عندما نتنازل عن بعض
ثوابتنا وأركاننا وأخلاقنا ، ركضا وراء أعداء الله وأعدائنا ، آملين رغدا
من العيش وإنعاش التجارة ،والصناعة و ...، والله تعالى يقول :" إِنَّ الَّذِينَ
تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ
وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" [العنكبوت : 17] .
ولذلك أحب أن أنبه في هذه القضية العقدية المحورية أن هناك الآن في
العالم ثلاث فلسفات كبرى :
الأولى : الشيوعية وهم ينفون وجود الله خالقا أو آمرا ، وأول مادة من
دستور الاتحاد السوفيتي في الفترة من 23/10/1917م حتى
26/12/1992م ، هي "لا إله والحياة مادة" ، ولقد وجد لهذه الدعوة
أنصار وحواريون، ولا يزالون يحملون اسم الإسلام شكلا بلا مضمون ، ومبنى بلا معنى .
الثانية : هي العلمانية ، وفي جوهرها لا تمانع أن تؤمن بأن الله خالق
الكون لكن الأمر للناس في الأحكام والتشريعات والقوانين، واللوائح في
كل أمور الحياة ، فإذا أحلّوا الزنا والربا والخمور والسفور و .. فهذا من
حكم الشعب للشعب لأن المنطق يقوم على :"دع ما لله لله ، وما لقيصر
لقيصر"فالعلاقة مع الله أنه الخالق علاقة فردية ونحن نأمر ونصرف حياتنا
كما نريد . وهذه لها أنصار أكثر الآن في ديار الإسلام، وكثير منهم لا
يدري أن هذا ربما يخرجه من الملة أن يعتقد أن الله له الخلق دون الأمر
وأن الدين يحتاج إلى تحديث وتطوير وفقا للمفاهيم الغربية الوافدة .
الثالثة : العقيدة الإسلامية التي توجب الجمع بين الأمرين "الخلق والأمر"
كما قال تعالى :" أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" [الأعراف
: 54] ، وهي تتوافق مع الفطرة السليمة والعقول الصحيحة ، أن من ابتكر
أو اخترع شيئا يكون له حق وضع النظام الذي نتعامل به مع هذا الاختراع
، كذلك الكون والإنسان له خالق واحد، وهو صاحب الحق في الأمر
والنهي ، وهذا وحده الحق الذي غيره الباطل .
لا بد لنا إذن أن نتأسى بالنبي في الوقوف بحزم أمام الإغواء بالتعايش
في وئام وسلام ، إذا تنازل كل منا عن جزء من دينه ، ولا مانع أن يجرب
كلُ ما عند الآخر في الوقت الذي ينادي فيه القرآن علينا " وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم
بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ
إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً
مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً
لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ" [المائدة: 49- 50]