من أعظم نعم الله على عباده أن فتح لهم باب التوبة والإنابة ، وجعل لهم
فيه ملاذاً أميناً ، وملجأً حصيناً ، يلجه المذنب ، معترفاً بذنبه ، مؤملاً في
ربه ، نادماً على فعله ، ليجد في قربه من ربه ما يزيل عنه وحشة الذنب ،
وينير له ظلام القلب ، وتتحول حياته من شقاء المعصية وشؤمها ، إلى
نور الطاعة وبركتها .
فقد دعا الله عباده إلى التوبة مهما عظمت ذنوبهم وجلَّت سيئاتهم ، وأمرهم
بها ورغبهم فيها ، ووعدهم بقبول توبتهم ، وتبديل سيئاتهم حسنات رحمة
ولطفاً منه بالعباد .
ومنزلة التوبة هي أول المنازل وأوسطها وآخرها ، لا يفارقها العبد ولا
ينفك عنها حتى الممات ، وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل بها
واستصحبها معه ، فهي بداية العبد ونهايته ، ولذا خاطب الله بها أهل
الإيمان وخيار خلقه ، وأمرهم أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم
وجهادهم ، وعلق الفلاح بها ، فقال سبحانه: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها
المؤمنون لعلكم تفلحون } ( النور 31) ، وقسَّم العباد إلى تائب وظالم
فليس ثم قسم ثالث ، قال سبحانه:{ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون
}(الحجرات : 11) ، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( إن
الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء
الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ) رواه مسلم .
وإذا كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما
تأخر يقول : ( يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله
في اليوم مائة مرة ) رواه مسلم ، فكيف بغيره من المذنبين والمقصرين .
والتوبة الصادقة تمحو الخطايا والسيئات مهما عظمت ، حتى الكفر
والشرك ، فإن الله تبارك وتعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره ، قال سبحانه :
{قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة
الأولين }( الأنفال 38) ، بل حتى الذين قتلوا الأنبياء ، وقالوا إن الله ثالث
ثلاثة ، وقالوا إن الله هو المسيح بن مريم - تعالى الله عما يقولون علواً
كبيراً – دعاهم للتوبة ، وفتح لهم أبواب المغفرة فقال سبحانه : {أفلا
يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم } (المائدة 74) ، وفي
الحديث القدسي يقول الله عز وجل : ( يا عبادي إنكم تخطئون بالليل
والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعاً ، فاستغفروني أغفر لكم ) رواه مسلم ،
وفي حديث آخر : ( يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني
غفرت لك ولا أبالي ، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم
لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ) رواه الترمذي .
ورمضان من أعظم مواسم التوبة والمغفرة وتكفير السيئات ، ففي الحديث
الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : ( الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى
رمضان ، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر ) كيف وقد جعل الله
صيامه وقيامه وقيام ليلة القدر على وجه الخصوص إيماناً واحتساباً مكفراً
لما تقدم من الذنوب ؟! والعبد يجد فيه من العون ما لا يجده في غيره ،
ففرص الطاعة متوفرة ، والقلوب على ربها مقبلة ، وأبواب الجنة مفتحة ،
وأبواب النار مغلقة ، ودواعي الشر مضيقة ، والشياطين مصفدة ، وكل
ذلك مما يعين المرء على التوبة والرجوع إلى الله .
فلذلك كان المحروم من ضيع هذه الفرصة ، وأدرك هذا الشهر ولم يغفر له
، فاستحق الذل والإبعاد بدعاء جبريل عليه السلام وتأمين النبي - صلى
الله عليه وسلم- ، حين قال جبريل : ( يا محمد ، من أدرك شهر رمضان
فمات ولم يغفر له فأُدخل النار فأبعده الله ، قل : آمين ، فقال : آمين ) رواه
الطبراني ، وقال - صلى الله عليه وسلم- : ( رغم أنف رجل دخل عليه
رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له ) رواه الترمذي .
وإذا كان الله عزوجل قد دعا عباده إلى التوبة الصادقة النصوح في كل
زمان ، فإن التوبة في رمضان أولى وآكد ، لأنه شهر تسكب فيه العبرات ،
وتقال فيه العثرات ، وتعتق فيه الرقاب من النار ، ومن لم يتب في رمضان
فمتى يتوب ؟ !.
وللتوبة شروط ستة لابد من توفرها لكي تكون صحيحة مقبولة :
أولها : أن تكون خالصة لله تعالى .
ثانيها : أن تكون في زمن الإمكان ، أي قبل أن تطلع الشمس من مغربها
فإذا طلعت الشمس من مغربها لم تنفع معها التوبة ، قال تعالى : { يوم يأتي
بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في
إيمانها خيراً }( الأنعام 158) ، وقبل أن تبلغ الروح الحلقوم ، فإن الله
يقبل توبة العبد مالم يغرغر ، كما أخبر بذلك المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .
ثالثها : الإقلاع عن الذنب ، فلا يصح أن يدعي العبدُ التوبة وهو مقيم على المعصية .
رابعها : الندم على ما كان منه ، والندم ركن التوبة الأعظم ، فقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( الندم توبة ) أخرجه ابن ماجه .
خامسها : العزم على عدم العودة إلى الذنب في المستقبل .
سادسها : رد الحقوق إلى أصحابها والتحلل منهم ، إن كان الذنب مما يتعلق بحقوق المخلوقين.
فحري بنا - أخي الصائم - ونحن في هذا الشهر الكريم أن نتخفف من
الأوزار ، ونقلع عن المعاصي والموبقات ، ونتوب إلى الله توبة صادقة ،
وأن نجعل من رمضان موسما لتقييم أعمالنا وتصحيح مسيرتنا ، ومحاسبة
نفوسنا ، فإن وجدنا خيراً حمدنا الله وازددنا منه ، وإن وجدنا غير ذلك تبنا
إلى الله واستغفرنا منه ، وأكثرنا من عمل الصالحات .
نسأل المولى عز وجل أن يمن علينا بالتوبة وأن يعيننا على الثبات عليها ،
وأن يجعلنا من المقبولين في هذا الشهر الكريم .