يا هذا، لا يزال التائبون يهربون الى دير الخلوة هروب الخائف الى دار الأمان، لهم في سحر
الليل تأنس بمدامع الأجفان، كتب السجود في ألواح جباههم خطوط العرفان، كم لأقدامهم في
الدجى من جولان وكم لهم في وادي السحر من عيون تجري كالطوفان، فاذا لاحت أعلام الفجر
كبّروا عند مشاهدة العيان، فديت طراق الدجى، فديت أرباب العزائم، فديت الفتيان.
بادروا رواهب الخلوة، نحن لكم جيران، تركنا الأسباب والأهل والأوطان، فرقنا شهوات
النفوس والأبدان، وخرّبنا ديار اللهو، فأقفرت منذ زمان، طلقنا الدينا بتاتا، وهجرنا الدار
والسكان، سقينا من شراب الأنس شربة ولو كان ما كان، لبسوا حلة الجوع بالنهار، وتركوا
خدمة من جلّ وهان، عمروا القلوب بالتقوى، وبالذكر اللسان، لهم نزاحم على باب الدجى،
فمنهم من صاح ومنهم نشوان، ومنهم من خامره بالشوق، فهو من الحب ولهان، ومنهم من
غلبه الوجد، فهو هائم سكران، أفناهم الخوف وأذبلهم الأرق وهم من القلق كل يوم في شأن.
سيّرهم ذكر الحبيب ولهم في التلاوة ألحان، نالوا منازل التوكل، وأصبحوا فيها قطان، باعوا
شهوات النفوس بأبخس الأثمان، سجلوا على أنفسهم سجل الرضا بالقضاء، فأهلا بالرجال
الشجعان، تتجافى جنوبهم عن المضاجع ولهم تلحين بالقرآن، خامرهم الخوف فسكروا من
شرابه مخافة النيران، منهم من سقي شراب المحبة صرفا، وتزايدت لهم الأحزان، ومنهم من
مزج له بالأشواق، فعاين منه ألوان، كم خرّبوا في حبه منازل، وكم أيتموا فيه من ولدان.
تراهم أبدا سكارى عرايا في القفار وفي البلدان. قلوبهم مملوءة بالخوف، وظاهرهم مضمّخ
بالأحزان، ينادي لسان شوقهم: لا كان من ألم السلوى ولا كان، خرق لهم حجاب العادات
وعقد على رؤوسهم للولاية تيجان، مجلس أنسهم مضمذخ بالمشاهدة شديدة الأركان.
يا معشر الفقراء، طوفوا بهذا الدير، وزاحموا على بابه، وباكروا هذه الدنّات، طيبوا على
هذا السماع، وتواجدوا على هذه الألحان، معكم جمال المحبوب، في الكون والحال.
يا معشر الفتيان، ما أطيب عيش الصدّيقين، شربوا هذا الشراب وباحوا بالكتمان، فما تراهم
الا بين واجد وهائم وخائف وراج وولهان.
فعندما تجلى لهم محبوبهم في قلوبهم، أغناهم عن مشاهدة العيان. لا طفهم بملاطفة: يا
عبادي لا خوف عليكم، اليوم لكم الأمان. بعيني ما تحملتم من أجلي، فكم من جفنت ساهر،
وكم من كبد من الشوق ملآن، سأكشف لكم الحجاب عن وجهي فتتنعمون بما لم يخطر على
قلب انسان. ألبسكم حلل الرضا، وأبسط مجالسكم بالرضوان، أسقيكم شراب التوحيد صرفا
خالصا، وانا الحنّان المنّان.
يا أهل السماع تواجدوا، ويا معشر الاخوان، أين المشتاق؟ هذا الشراب، هذا كأس المتاب ملآن.
أين أنت من أهل الصفا يا مضيّعا عمره في العصيان؟ بادر قبل تغيّر الحال، فتعود بالخيبة
والخسران، واعص من لامك وخالف من عدلك، وأطع من نصحك ودع قالا وقيلا.
{ فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ومن كان في هذه أعمى
فهو في الاخرة أعمى وأضل سبيلا} الاسراء 71ـ 72.
قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة
العصر، فقام في الركعة الأولى، حتى ظننا أنه لا يرفع رأسه، فرفع رأسه، ورفعنا بعده، فلما
قضيت الصلاة، انفتل من محرابه صلى الله عليه وسلم وقال:" أين أخي وابن عمي علي ابن
أبي طالب؟" فأجابه علي رضي الله عنه من آخر الصفوف، وهو يقول لبيك يا رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أدن مني يا أبا الحسن"، فدنا منه، فلم يزل يدنيه حتى
جلس بين يديه. فقال:" يا أبا الحسن، أما سمعت ما أنزل الله عليّ في فضل الصف الأول،
والتكبيرة الأولى؟" فقال: بلى يا رسول الله. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فما
الذي أبطأك عن الصف الأول والتكبيرة الأولى، فهل شغلك حب الحسن والحسين عن ذلك؟"
فقال له علي رضي الله عنه: وهل يشغلني حبهما عن حب الله تعالى؟! قال له:" فما الذي
شغلك عن ذلك يا عليّ" قال: يا رسول الله، أذن بلال وأنا في المسجد، فركعت ركعتين، وأقام
بلال الصلاة فكبّرت معك التكبيرة الأولى، فوسوسني شيء من أمر الوضوء، فخرجت من
المسجد الى منزل فاطمة رضي الله عنها، فناديت، يا حسن، يا حسين، فلم يجيبني أحد، فبينما
أنا كالمرأة الثكلى، أو كالحبة في المقلى، وأنا أطلب ماء لوضوئي، اذ هتف بي هاتف عن
يميني، فاذا أنا بقدح من الذهب الأحمر، وعليه منديل أخضر، فكشفت المنديل، فاذا هو ماء أشد
بياضا من اللبن، وأحلى من الشهد، وألين من الزبد، فتطهرت للصلاة، تمندلت بالمنديل،
ورددته على القدح، والتفت فلم أره، ولم أر من وضعه ولا من رفعه.
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:" بخ بخ، هل تعلم من اتاك بالمنديل والقدح يا
أبا الحسن؟" قال: الله ورسوله أعلم. قال:" أتاك بالقدح جبريل عليه السلام، والماء من
حظيرة القدس، والذي مندلك بالمنديل ميكائيل عليه السلام، والذي أمسك يدي على ركبتي حتى
أدركت الركعة الأولى اسرافيل عليه السلام. يا أبا الحسن من أحبّك، أحبّه الله، ومن أبغضك أبغضه الله".
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم مع أصحابه، فاذا بيهودية قد
أقبلت تبكي، حتى وقفت بين يديه، وجعلت تقول هذه الأبيات، وهي تبكي:
بأبي أفديك يا نور الفلك ليت شعري أن شيء قتلك
غبت عني غيبة موحشة أترى ذئب يهودي أكلك
ان تكن ميتا فما اسرع ما كان من أمر الليالي من اجلك
أو تكن حيا فلا بدّ لمن عاش أن يرجع من حيث سلك
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:" مالك أيتها المرأة؟"
قالت: يا محمد بينما أنا وولدي يلعب بين يدي، اذ خطف، وبقي المكان منه بلقعة.
قال لها:" يا هذه ان ردّ الله ولدك على يدي، أتؤمنين بي؟"
قالت: نعم وحق الأنبياء الكرام، ابراهيم، واسحاق، ويعقوب عليهم الصلاة والسلام.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى ركعتين، ثم دعا بدعوات، فما استكملها حتى
وضع الطفل بين يديه صلى الله عليه وسلم.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:" أين كنت أيها الطفل؟"
قال: بينما كنت ألعب بين أمي، اذا أقبل عليّ عفريت كافر، فاختطفني وذهب بي من وراء
البحر، فلما دعوت الله عز وجل، سلط الله عليه جنا مؤمنا أشد منه بطشا، وأعظم خلقا
فانتزعني منه، وساقني اليك، فها أنا بين يديك صلى الله عليك.
فقلت المرأة: أشهد أن لا اله الا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم.