لقد أقبل الخليفة عبد الرحمن الناصر لدين الله على عمارة الزهراء أيما اقبال, وأنفق من أموال الدولة في
تشييدها وزخرفتها ما أنفق, وهي في حقيقة حالها مجموعة من القصور الفاخرة. وكان يشرف بنفسه على
شؤون البناء والزخرفة حتى شغله ذلك ذات مرّة عن شهود صلاة الجمعة , وكان منذر بن سعيد يتولى خطبة
الجمعة والقضاء, ورأى_ خروجا من تبعة التقصير فيما أوجبه الله على العلماء _ أن يلقي على الخليفة الناصر
درسا بليغا يحاسبه فيه على إسرافه وإنفاقه في مدينة الزهراء , ورأى أن يكون ذلك على ملأ من الناس في
المسجد الجامع بالزهراء فلما كان يوم الجمعة اعتلى المنبر والخليفة الناصر حاضر والمسجد غاصّ بالمصلين وابتدأ
خطبته فقرأ قوله تعالى:{ أتبنون بكل ريع ءاية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * واذا بطشتم بطشتم
جبّارين * فاتقوا الله واطيعون *واتقوا الذي أمدّكم بما تعلمون * أمدّكم بأنعام وبنين * وجنّات وعيون * اني
أخاف عليكم عذاب يوم عظيم}. سورة الشعراء (128_135).
ثم مضى في ذم الاسراف على البناء بكل كلام جزل وقول شديد, ثم تلا قوله تعالى:{ أفمن أسس بنيانه على
تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هاو فانهار به في نار جهنّم, والله لا يهدي القوم
الظالمين}. التوبة (109).
وراح يحذر وينذر ويحاسب حتى ادكر من حضر من الناس وخشعوا وأخذ الناصر من ذلك
بأوفر نصيب , وقد
علم أنه المقصود به فبكى وندم على تفريطه. غير أن الخليفة لم يحتمل صدره لتلك المحاسبة
العلنيّة ولشدة ما سمع
.
فقال شاكيا لولده الحكم: والله لقد تعمّدني بخطبته وما عنى بها غيري, فأسرف عليّ وأفرط في
تقريعي.. ثم
استشاط غيظا عليه متذكّرا كلماته وأراد أن يعاقبه لذلك!!.
فأقسم أن لا يصلي خلفه صلاة جمعة, وجعل يلزم صلاتها وراء أحمد بن مطرف خطيب جامع فرطبة.
ولكن لما رأى ولده الحكم تعلق والده بالزهراء والصلاة في مسجدها العظيم.
قال له: ما الذي يمنعك من عزل منذر عن الصلاة به اذا كرهته ؟ ولكن الناصر زجره قائلا: أمثل منذر بن
سعيد في فضله وخيره وعلمه (لا أمّ لك) يعزل لارضاء نفس ناكبة عن الرشد سالكة غير القصد؟.
هذا ما لا يكون, واني لأستحي من الله ألا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعا مثل منذر في ورعه وصدقه,
ولكن أحرجني فأقسمت, ولوددت أن أجد سبيلا الى كفارة يميني بملكي, بل يصلي منذر بالناس حياته وحياتنا
ان شاء الله, فما أظن أنا نعتاض منه أبدا. ولما اشتدت الفجوة بين الشيخ منذر بن سعيد والخليفة عبد الرحمن
نتيجة محاسبة المنذر له في اسرافه على بناء الزهراء, أراد ولده الحكم أن يزيل ما بينهما فاعتذر له عند الخليفة.
فقال: يا أمير المؤمنين انه رجل صالح وما أراد الا خيرا, لو رأى ما أنفقت وحسن تلك البنية لعذرك ( ويريد
بالبنية هنا القبة التي بناها الناصر بالزهراء واتخذ قرامدها من فضة وبعضها من مغش بالذهب, وجعل سقفها
نوعين صفراء فاقعة الى بيضاء ناصعة يستلب الأبصار شعاعها).
فلما قال له ولده ذلك أمر ففرشت بفرش الديباج وجلس فيها لأهل دولته.
ثم قال لقرابته وزرائه: أرأيتم أم سمعتم ملكا كام قبلي صنع مثل ما صنعت؟.
فقالوا: لا والله يا أمير المؤمنين, وانك الأوحد في شأنك.
فبينما هم على ذلك, اذ دخل منذر بن سعيد ناكسا رأسه, فلما أخذ مجلسه قال له ما قال لقرابته, فأقبلت
دموع المنذر تنحدر على لحيته لسوء ما رأى.
وقال: والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ, ولا أن تمكنه من قيادتك هذا التمكن مع
ما آتاك الله وفضلك به على المسلمين حتى ينزلك منازل الكافرين.
فاقشعر الخليفة من قوله.
وقال له: انظر ما تقول كيف أنزلني الله منازلهم؟.
فقال: نعم, أليس الله يقول:{ لولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقف من فضة
ومعارج عليها يظهرون}. الزخرف(33).
فوجم الخليفة ونكس رأسه مليا, وجعلا دموعه تنحدر على لحيته ثم أقبل على المنذر وقال له:
جزاك اله خيرا وعن الدين خيرا, فالذي قلت هو الحق.
ثم قام من مجلسه, وأمر بنقض سقف القبة وأعاده أميرها ترابا على صفة غيرها.