تبلغ السلبية التربوية مداها في ممارسة الثالوث المحظور في العملية
التربوية: الضرب والشتم والصراخ تلك الوسائل الثلاثة هي صورة قصوى لتضخيم السلطة
الوالدية على حساب حاجات الطفل التربوية.
وإذا كنا نعتبر أن العقاب التربوي جزء أساسي من نظام التعامل التربوي مع الطفل، إلا أننا لا
نختزل العقاب في هذه الوسائل السلبية الثلاثة.
فالضرب بما هو إيلام جسدي، والشتم بما هو إهانة معنوية، والصراخ بما هو إرهاب نفسي..
فإن الأب المتسلط يهدف من خلال هذه الوسائل الثلاثة إلى أن يقول للطفل:' إذا أردت أن
تنجو من الألم البدني، وإذا أردت أن يكون لك اعتبار، وإذا أردت أن تحس بالأمن من قبلي،
فعليك أن تطيعني'.
قد تكون أنت من الذين أدمنوا استعمال هذه الوسائل، أو من الذين لا يستعملونها إلا نادرا، أو
ربما من الذين لم يستعملوها أبدا، و لكني في كل الحالات أدعوك إلى الوقوف قليلا عند حقيقة
كل حقيقة وأثر هذا الثالوث المحظور في العملية التربوية وليست كل الوسائل السلبية المكونة
للثالوث متساوية من حيث الأثر السيئ على الطفل، بل هي متفاوتة في انعكاساتها السلبية
وآثارها التربوية: فالشتم باعتباره يستهدف كرامة الطفل وشعوره الاعتباري ومعنوياته
باستغلال هشاشته النفسية، يعتبر سلوكا غير مبرر بأي شكل من الأشكال، اللهم إلا إذا كان
الأب يعتبر أن تفريغه لغضبه في الطفل هو في حد ذاته مبررا وسأعفي نفسي وأعفيكم من
الدخول في تفاصيل الشتائم التي قد لا تعبر في كثير من الأحيان إلا عن سلوك نابع من أب
يعاني من الوسواس التسلطي، والذي لا يجد راحته إلا عند فتح وعائه ليصدر قائمة ممقوتة من
الشتائم والأوصاف المبتذلة.
أما الصراخ فباعتباره يستهدف أمن واطمئنان الطفل عن طريق إرهابه، باستغلال قوة الأوتار
الصوتية التي يتمتع بها الأب، فهو أيضا يعتبر سلوكا لا يمكن أن يحقق أي هدف تربوي
إيجابي.
وأما الضرب، هذه الوسيلة المفضلة لدى معظم الآباء، والوسيلة المعتمدة كأداة أساسية للتعامل
مع الطفل، فبإمكاننا أن نتفاوض بشأنها من أربع زوايا:
أولا:علاقة الضرب بالفعل/الخطأ:
يصطلح عادة على قاعدة مفادها: ' الجزاء العادل هو الذي يكون من جنس العمل' وعلى
أساسها يجوز لنا أن نسأل الأب الذي يعتمد الضرب كأداة أساسية في تعامله مع طفله: أي
عدل تمارسه حينما تستعمل الإيلام البدني على طفلك لتعاقبه على الخطأ الذي ارتكبه ؟
يكفي أن نؤكد حقيقة مفادها أن الطفل خاصة في سنواته التسع الأول، لا يمكن أبدا أن يدرك
العلاقة بين أي خطإ قد يقترفه وبين الإيلام البدني الذي يقع عليه، وبالتالي فلن يتحقق فيه أي
هدف تربوي من خلال الضرب. و لا يمكن أن نستثني في هذا الصدد إلا الخطأ المتعلق بقيام
الطفل بضرب غيره عمدا حينها فقط يكون الجزاء من جنس العمل وبذلك كله يكون الضرب
من ناحية علاقته بالخطأ عموما ممارسة غير عادلة.
ثانيا:علاقة الضرب بالمفعول/الأثر:
إن الحديث النبوي الشريف الذي ينص على الإذن بضرب الطفل لتركه الصلاة، يؤكد من جهة
المعنى أن الطفل لا ينبغي ضربه قبل عشر سنوات، وهو دليل على من يحتجون به لتأصيل
الضرب.
وإني لأتساءل حقيقة: إذا كان الضرب غير مأذون به قبل عشر سنوات، فإلى متى يمكن للأب
أن يستمر في ضرب الطفل الذي تجاوز العشر سنوات، خاصة وأنه على أبواب البلوغ ؟ ألا
ترى أن هذا الإذن المتأخر بالضرب قد ضيق على المربي، حتى لا يعتمده كوسيلة أساسية في
تعامله مع الطفل، وحتى يبحث لنفسه عن وسائل أخرى أجدى و أنفع. فصلى الله و سلم على
النبي محمد وعلى آله و بذلك يكون الضرب من هذه الناحية أداة غير 'مجدية' لأكثر من ثلاث
سنوات في أحسن الأحوال.
ثالثا: علاقة الضرب بالفاعل/الطفل:
إن الضرب في حد ذاته، ولو من غير قصد من الوالدين، يستهدف إشعار الطفل بأنه غير
مرغوب فيه، مما يحدث اختلالا كبيرا في توازنه النفسي، هذا التوازن الذي لا يمكن أن يعود
إلى حالته الطبيعية إلا بدفقة عاطفية عارمة، من قبل الأم أو الأب، يغدقانها على ولديهما.
فإذا كانت هناك حالات نادرة مضبوطة بنوعها وكيفها يجوز فيها للأب أن يمارس استثناء
هذه الأداة مع الكراهة التربوية الشديدة، فإننا نؤكد على أن هذا الاستثناء لا يجوز أن 'يستفيد
منه'أيا من كان مهما بلغت قرابته من الطفل. والسبب في ذلك بسيط: وهو أنه ليس هناك من
يمتلك ذلك الرصيد العاطفي لدى الطفل غير والديه دون سواهما، وهما اللذان يستطيعان
بواسطته أن يعيدا ذلك التوازن النفسي الذي يحدثه الضرب في كيان الطفل.
وبذلك يكون الإذن الاستثنائي بالضرب مقتصرا على الأبوين دون سواهما.
رابعا: علاقة الضرب بالهدف:
تؤكد الدراسات التربوية التي أجريت أن 95 في المائة من الحالات التي يتعرض فيها الطفل
للضرب تكون ناجمة عن انفعال ينتاب الأب ورغبة في التنفيس عن الغضب، وليست نتاجا
لتقديرات هادئة وحسابات تستهدف تحقيق هدف تربوي معين.
' وقد يقول البعض إن الهدف هو تعليم الطفل الفرق بين الصواب والخطأ. ولكن ذلك القول واه
وبلا معنى: لأنه إذا كان طفلك لا يدرك الفرق بين الصواب والخطأ، وأنت تعلم ذلك، فأي حق
ذلك الذي تعطيه لنفسك بمعاقبته عن شيء لم يتعلمه؟ فالغاية من وراء العقاب ينبغي أن تكون
تعزيز الأنماط السلوكية وليس تعليمها.'
وبذلك يكون الضرب على العموم لا يحقق هدفا تربويا تعليميا.
إن أخطر ما في ممارسة مثلث العنف التربوي بكل تجلياته الثلاث، كونه يعمل على تطويع
الطفل للخضوع لكل من يمارس عليه الإيلام البدني أو الإهانة المعنوية أو الإرهاب النفسي.
و لذلك أوجه إليك القول أيها الأب الممارس للعنف تجاه طفلك:
إنك لن تكون المصدر الوحيد للعنف الذي سيمارس على طفلك: فهناك قرينه الذي يريده أن
يشاركه انحرافه، وهناك المبتز الذي يرمي إلى اغتصاب حقه، وهناك المتسلط الذي يستهدف
امتهان كرامته... سيكتشفون جميعا أنه من السهل عليهم تطويع ابنك: بضربه أو شتمه أو
الصراخ في وجهه، وسيمارسون عليه ما مارسته عليه أنت، وسيتحكمون فيه وفي سلوكه
وفيما كل يملك من كرامة وأشياء ومصير، بنفس الأسلوب الذي أخضعته له أنت. وسيخضع
لهم بكل تأكيد، لأنك ببساطة لم تعوده أن يخضع وينقاد بغير الضرب و الشتم والصراخ؟
وفي هذا الصدد نؤكد كذلك ما أكدته مجموعة من الدراسات العلمية: من أن العنف التربوي
ينتج 10 في المائة من الأطفال العدوانيين، وأنه يكون من بين هؤلاء الأطفال العدوانيين 90
في المائة سلبيين أي تابعين ومنقادين. فاحذر أن يكون طفلك بينهم، وحاذر أن تكون سببا
لانحرافه.
استخلاص
من بين تلك الوقائع التي بقيت في ذهني، بعد أن ألقيت عرضا حول التربية الإيجابية، حدث أن
تقابلت بأحد الأساتذة، وكان قد حضر العرض صحبة زوجته، فأخبرني أنها كانت قد سبقته
للبيت، وبعد أن لحق بها بفترة ودخل البيت، وجد جوا من 'السلم التام' يسود البيت، كما أحب
هو أن يعبر بنفسه، حيث أن زوجته أصبحت تتعامل مع أطفالها بطريقة جديدة ومختلفة، وأنهم
أصبحوا أقل توترا.
أحكي هذه القصة من ضمن قصص كثيرة، كي أؤكد على الفاعلية القصوى لمسألة إعادة النظر
في حقيقة الطفل وحقيقة الوظيفة التي يلزمنا القيام بها تجاههم، مع أننا نؤكد على أن تطبيق
مبادئ التربية الإيجابية لن يتأتى دون مجاهدة لذواتنا وصبر كبير.
فإذا قررت منذ الآن أن تصبح مربيا إيجابيا، فما عليك إلا أن تغير مركز اهتمامك: من ذاتك
إلى ذات طفلك، ومن خوفك على هيبتك وسلطتك إلى خوفك على حاجات طفلك وحقوقه.. إذا
فعلت ذلك فسوف تجد نفسك وبشكل تلقائي:
[1] تعيد النظر في الصورة النموذجية السابقة للأب أو الأم، تلك الصورة الثاوية في عقلك
الباطن و المتحكمة في ردود أفعالك تجاه أطفالك.
[2] تراقب اللغة التي اعتدت على استعمالها تجاه طفلك.
[3] تلغي تدريجيا كل العبارات السلبية الجاهزة و تبدأ في تعويضها بعبارات إيجابية.
[4] تميز بين رغبات الطفل المشروعة فترعاها و بين سلوكه الخاطئ فتعمل على تصويبه.