تحليل الصحيفة[10]
أكدت الصحيفة على أن المسلمين (مهاجرين وأنصار) امة واحدة تربط بين أفرادها آصرة العقيدة،
وولاؤهم لله تعالى لا للقبيلة، وهم متمايزون عن غيرهم من الأمم (من دون الناس) بتعبير الصحيفة،
وكان هذا التمييز مقصودا لزيادة تماسك الجماعة المسلمة، واعتزازها بدينها. واعتبرت المهاجرين كتلة
واحدة لقلة عددهم، فـي حين نسبت الأنصار لكثرتهم إلى عشائرهم (بنو عوف، بنو الحارث، بنو ساعدة
... ). وهذا لا يعني فـي شيء نقض أساس العقيدة، واعتماد القبيلة مكانه، بل قصد منه تحقيق التكافل
الاجتماعي بين أفراد العشيرة الواحدة كعقل الديات ( على ربعتهم يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى )، وفداء
الأسرى ( وهم يفدون عانيهم بالمعروف )، وبناء على هذه القاعدة أن المسلمين أمة واحدة من دون
الناس دخلت شعوب كثيرة فـي الإسلام دون أن يكون انتماؤها العرقي أو اللغوي حائلا بينها و بين
اعتناق الإسلام، والمساهمة فـي بناء صرحه العظيم .
و قررت أيضا مسؤولية المؤمنين فـي إعانة المفرح منهم ( وهو الذي أثقله الدين ) سواء ترتب هذا الدين
عن أسره فـي يد العدو، أو عن جناية خطأ، وهو تأكيد لمبدأ التكافل الاجتماعي بين الجماعة المؤمنة (
وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف فـي فداء أو عقل ) .
كما أقرت الصحيفة المسؤولية الجماعية للمؤمنين بإنزال العقوبة على من خالف الشرع كائنا من كان،
حتى لو كان ولد أحدهم ( وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان
أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد احدهم ) وهي بذلك ترسخ مبدأ سيادة القانون
فوق الجميع. كما ألغت الصحيفة عادة الأخذ بالثأر التي كانت سائدة فـي الجاهلية، واعتبرت القتل بدون
موجب شرعي جريمة يعاقب عليه بالقصاص، إلا إذا اختار أهل القتيل الدية، أو العفو، وحملت المؤمنين
جميعا مسؤولية تطبيق الحد عليه ( وإنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به، إلا أن يرضى ولي
المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه ) وفـي الوقت نفسه تتوعد الصحيفة كل من
آوى محدثا – وهو من وقع فـي حد من حدود الله عز وجل – أو نصره بعقوبة مغلظة وهي لعنة الله
وغضبه يوم القيامة، ولا يقبل منه صرف ولا عدل، وذلك حتى يسري القانون على الجميع، ولا يجد
المجرم فـي حماية أو سند ما ذريعة للإفلات من العقاب ( وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما فـي هذه الصحيفة
وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه، وانه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه
يوم القيامة، و لا يؤخذ منه صرف ولا عدل )، وأكدت استعلاء المؤمنين على الكافرين ( ولا يقتل
مؤمن مؤمنا فـي كافر ولا ينصر كافرا على مؤمن ) .
كما أقرت مبدأ الجوار الذي كان معمولا به فـي الجاهلية، وجعلته حقا لكل مسلم أيا كان، وحصرت
الموالاة فـيما بين المؤمنين دون غيرهم، فلا يوالي مؤمن كافرا ولا ينصره ( وإن ذمة الله واحدة يجير
عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس ). والمؤمنون ينصر بعضهم بعضا، ويمنع
بعضهم بعضا، لما بينهم من رابط الإيمان والعبودية لله عز وجل ( إن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض
بما نال دماءهم فـي سبيل الله ). وهي بذلك تقطع عادات الجاهلية التي جعلت الولاء على أساس العصبية
القبلية، وكان شعارها ( انصر أخاك ظالما ومظلوما ) وجعلت مكانها الولاء لله .
و منعت الصحيفة مشركي المدينة أن يجيروا أنفس قريش وأموالهم، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم
فـي حرب معهم، وأي إجارة لقريش وأموالها ستكون عونا لهم على الدولة الإسلامية، وستكون بالتالي
خرقا لواجب من واجباتهم نحو هذه الدولة ( وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دون
على مؤمن ) وهو الواجب نفسه الذي التزم به يهود المدينة ( وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها ) .
و أكدت الصحيفة على أن المرجعية العليا فـي الإسلام لله عز وجل وللرسول صلى الله عليه وسلم ، تثبيتا
للأمن والنظام، ومنعا للفوضى والاضطراب، الذي ينشأ عن تعدد المرجعيات
و اختلافها وتضاربها، ( وإنكم مهما اختلفتم فـيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم ) .
و استنادا إلى هذا المبدأ الإسلامي فقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم فـي آن واحد بين السلطة
التشريعية والسلطة التنفـيذية والسلطة القضائية، وهو ما عبر عنه علماؤنا قديما بتصرفات الرسول صلى
الله عليه وسلم باعتباره نبيا مبلغا عن الله عز وجل ( السلطة التشريعية ) و باعتباره إماما رئيسا
للدولة ( السلطة التنفـيذية ) ثم باعتباره قاضيا يفصل فـي الخصومات ( السلطة القضائية ) .
و لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو رئيس الدولة وصاحب السلطة التنفـيذية، فهو وحده يقرر دون
غيره إعلان الحرب، فإذا أعلنها يكون المؤمنون ملزمين بها ، ولا يجوز لهم أبدا مهادنة الخصم، ثم إن
عبء الحرب لا تتحمله عشيرة دون أخرى بل تتناوب فـيه العشائر كلها ( وإن سلم المؤمنين واحدة لا
يسالم مؤمن دون مؤمن فـي قتال فـي سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم، وإن كل غازية يعقب بعضها بعضا )
و أما بخصوص البنود المتعلقة بيهود المدينة، فقد اعتبرتهم الصحيفة جزءا من الدولة الإسلامية يتمتعون
بحق المواطنة كسائر المؤمنين، واختلاف الدين لن يكون سببا لحرمانهم من هذا الحق، أو إيقاع الظلم بهم
( وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم ). واعتبرتهم أمة
مع المؤمنين و سمتهم بعشائرهم ( بنو عوف – بنو النجار – بنو الحارث ... ) وكفلت لهم حريتهم
الدينية ( لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم ) وهي بذلك رسخت لمبدإ أصيل فـي دين الإسلام
وهو حرية الاعتقاد ( لا إكراه فـي الدين ) وحملت مسؤولية ارتكاب الجريمة لمرتكبيها منهم ( إلا من
ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه و أهل بيته ). وكون اليهود معاهدين لا يحول بينهم وبين إيقاع العقوبة
إذا أتوا أسبابها ( وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم ) .
و تلزم الصحيفة يهود المدينة بتحمل نفقات الحرب مع المؤمنين ( وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا
محاربين ) والدفاع عن المدينة حال العدوان عليها ( وإن بينهم النصر على من دهم يثرب ). كما تحرم
عليهم الخروج من المدينة إلا بإذن من النبي محمد ( وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمدصلى الله عليه
وسلم ) وتمنعهم من إجارة قريش
و تجارتها (و إنه لا تجار قريش ولا من نصرها ) وهو نفس التعهد الذي أخذ من قبل على مشركي
المدينة، وذلك قطعا للطريق عن أي مدد أو حماية لقريش .
و فـي حال حدث أو اشتجار بينهم وبين المسلمين، فإن اليهود ملزمون بالرجوع إلى الله وإلى الرسول (
وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى
محمد رسول الله ) وفـيما عدا ذلك من أمورهم الشخصية فإنهم يحتكمون إلى التوراة .
و فـي الوقت الذي سمحت فـيه الصحيفة لحلفاء اليهود والمسلمين بمصالحة كل طرف للآخر، فإنها
استثنت من ذلك قريشا باعتبارها فـي حالة حرب مع المسلمين ( وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه
ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب فـي الدين ) .
و اعتبرت الصحيفة المدينة المنورة حرما لا يقتل صيده ولا يقطع شجره ( وإن يثرب حرام جوفها لأهل
هذه الصحيفة ) وأمنت من بها إلا من حمل ظلما أو اكتسب إثما ( وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن
بالمدينة إلا من ظلم أو أثم ) .
المراجع
البخاري كتاب الكفالة باب قول الله عز وجل: ( والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) رقم 2294
[2] سيرة ابن هشام 2/505 بدون إسناد ، و قد ذكر ابن اسحاق هناك عددا ممن آخى بينهم النبي صلى الله عليه وسلم .
[3] طبقات ابن سعد 1/238
[4] البخاري كتاب مناقب الأنصار باب إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين و الأنصار رقم3782
[5] الحشر 9
[6]البخاري كتاب مناقب الأنصار باب كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه رقم 3937، واللفظ له، وأحمد 3/190
[7]الترمذي كتاب صفة القيامة باب 44 رقم 2495، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه
[8]سيرة ابن هشام 2/507
[9] سيرة ابن هشام 2/501 بدون إستاد ، و انظر المصادر الأخرى لهذه الصحيفة فـي كتاب :(
السيرة النبوية فـي ضوء المصادر الأصلية ) للدكتور مهدي رزق الله أحمد ص : 307-312 و كتاب
( السيرة النبوية الصحيحة ) للدكتور أكرم ضياء العمري 1/272-273 و يرى الدكتور أكرم ضياء
العمري أن هذه الوثيقة ترقى ، بمجموعها إلى مرتبة الأحاديث الصحيحة ، حيث وردت من طرق عديدة
تتضافر فـي إكسابها القوة ، ثم إن أسلوبها الذي كتبت به ، و كونها لا تمدح أو تقدح فردا و لا جماعة ،
و التشابه الكبير بين أسلوبها و أساليب كتب النبي صلى الله عليه وسلم الأخرى يعطيها توثيقا آخر(انظر
السيرة النبوية الصحيحة 1/275 )
[10] انظر فـي ذلك كتاب( السيرة النبوية الصحيحة ) للدكتور أكرم ضياء العمري 1/286-298 ، وكتاب ( السيرة النبوية ، عرض وقائع و تحليل أحداث ) للدكتور علي محمد محمد الصلابي 1/399-407 ، و كتاب
(دراسة فـي السيرة للدكتور عماد الدين خليل ص 151-
152 ، و كتاب (الدولة العربية الإسلامية ، نشأتها و نظامها السياسي ) لمنصور أحمد الحرابي ص 37-