المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
كان توافد المهاجرين بكثرة على المدينة المنورة، وقد تركوا ديارهم وأموالهم بمكة، بحاجة إلى حل لسد
حاجاتهم، وإشعارهم بأنهم ليسوا عالة على الأنصار،و تمتين روابط المودة فـيما بينهم وبين الأنصار أهل
المدينة، فكان أن آخى صلى الله عليه وسلم بينهم فـي دار أنس بن مالك[1]، وقال لهم: تآخوا فـي الله
أخوين أخوين[2]. وكانوا تسعين رجلا وقيل مائة، نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار، وكان
ذلك قبل بدر فلما كانت وقعة بدر وأنزل الله تعالى: ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض فـي كتاب الله
إن الله بكل شيء عليم ) نسخت هذه الآية ما كان قبلها، وانقطعت المؤاخاة فـي الميراث، ورجع كل
إنسان إلى نسبه، وورثه ذوو رحمه[3].
و قد كان الأنصار أهل زراعة فأعطوا أراضيهم لإخوانهم المهاجرين ليعملوا فـيها بنصف التمر[4].
ونظرا لصنيع الأنصار هذا، والمستوى الرفـيع الذي أبدوه فـي البذل والمواساة والإيثار أثنى عليهم ربنا
تبارك وتعالى فـي محكم تنزيله: ( والذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا
يجدون فـي صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة )[5]. وأثنى عليهم
رسوله صلى الله عليه وسلم، و كتب الحديث تفـيض بذكر مناقبهم ومحاسنهم. وفـيما يرويه البخاري فـي
هذا الباب لَمِمَّا يدعو إلى العجب، ويستحق أكثر من وقفة، فعن أنس بن مالكقال: (قدم عبد الرحمن بن
عوف المدينة فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن
يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمان: بارك الله لك فـي أهلك ومالك، دلني على السوق. فربح شيئا من
أقط وسمن، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيام وعليه وضر من صفرة فقال النبي صلى الله عليه
وسلم : مهيم يا عبد الرحمان ؟ قال: يا رسول الله تزوجت امرأة من الأنصار. قال: فما سُقت فـيها ؟
فقال: وزن نواة من ذهب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أولم ولو بشاة)[6].
و ظل المهاجرون يذكرون هذا الفضل لإخوانهم الأنصار بلسان الثناء والاعتراف، فعن أنس قال: (لما
قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه المهاجرون فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا قوما أبذل من كثير
ولا أحسن مواساة من قليل من قوم نزلنا بين أظهرهم، لقد كفونا المؤنة وأشركونا فـي المهنأ حتى لقد خفنا
أن يذهبوا بالأجر كله فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: لا ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم)[7] ، ولما دون عمر بن الخطاب
الدواوين بالشام، وكان بلال أقام بها يومئذ مجاهدا، سأله عمر: إلى من تجعل ديوانك يا بلال؟ قال: مع
أبي رويحة، لا أفارقه أبدا للأخوة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد بيني وبينه، فضم إليه،
وضم ديوان الحبشة إلى خثعم لمكان بلال منهم
كتابة الصحيفة
قال ابن اسحاق: (وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار، وادع فـيه
اليهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط
عليهم: بسم الله الرحمان الرحيم هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين و
المسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون
من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف
على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى كل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو
الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين،
وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين
المؤمنين، وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف
والقسط بين المؤمنين وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها
بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف فـي فداء أو عقل .
قال ابن هشام: المفرح: المثقل بالدين والكثير العيال: قال الشاعر:
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة وتحمل أخرى أفرحتك الودائع
و أن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو
إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعا و لو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنا
فـي كافر ولا ينصر كافراً على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم
موالي بعض دون الناس، وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين
عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن فـي قتال فـي سبيل الله إلا على سواء وعدل
بينهم، وإن كل غازية يعقب بعضها بعضا، وإن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم فـي
سبيل الله، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا
يحول دونه على مؤمن، وإنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول وإن
المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه وإنه لا يحل لمؤمن اقر بما فـي هذه الصحيفة و آمن بالله
واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة
ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل وإنكم مهما اختلفتم فـيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد
صلى الله عليه وسلم وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع
المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته،
وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بن عوف، وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم
وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، و إن لبني الشطيبة مثل ما
ليهود بني عوف وإن البر دون الإثم وإن موالي ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة يهود كأنفسهم وإنه لا يخرج
منهم إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنه لا ينحجز على ثار جرح، وإنه من فتك فبنفسه فتك،
وأهل بيته، إلا من ظلم، وإن الله على أبر هذا وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم وإن بينهم
النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم وإنه لم يأثم امرؤ
بحليفه، وأن النصر للمظلوم وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين وإن يثرب حرام جوفها
لأهل هذه الصحيفة وإن الجار مضار ولا آثم وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها وإنه ما كان بين أهل
هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، وإن الله على أتقى ما فـي هذه الصحيفة وأبره وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها وإن
بينهم النصر على من دهم يثرب وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه و
إنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب فـي الدين على كل أناس حصتهم فـي
جانبهم الذي قبلهم وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من
أهل هذه الصحيفة، قال ابن هشام: ويقال مع البر المحسن من أهل هذه الصحيفة. قال ابن اسحاق: وإن
البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه وإن الله على أصدق ما فـي هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا
يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو أثم وإن الله جار
لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم)[9].