أوائل المهاجرين
فـي حديث البراء بن عازب عند البخاري أن أول المهاجرين إلى المدينة المنورة مصعب بن عمير وعبد
الله بن أم مكتوم[1]، وعند ابن اسحاق أنه أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد[2]، وذكر قصة هجرته،
وكيف حال رجال بني المغيرة بينه وبين زوجهأم سلمة دون رفقته، وحبسوها عندهم، فلما رأى ذلك بنو
عبد الأسد رهط أبي سلمة تجاذبوا ابنهما حتى خلعوا يديه، وانطلق به بنو عبد الأسد، فكانت أمه تخرج
كل غذاة إلى الأبطح فتبكي مما ألم بها، مدة سنة أو قريبا منها، حتى أذنوا لها فـي اللحاق بزوجها، ورد
إليها بنو عبد الأسد ابنها سلمة، وانطلقت هي وابنها وحيدين فـي الطريق إلى المدينة حتى إذا كانت بالتنعيم
لقيها عثمان بن طلحة فرافقها حتى وصلت إلى قرية بني عمرو بن عرف بقباء حيث نزل زوجها أبو سلمة[3].
ثم هاجر إلى المدينة بعد ذلك عامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي حثمة ثم عبد الله بن جحش، ثم قدم
المهاجرون أرسالا[4]، فنزلوا عند إخوانهم الأنصار[5]. و لم يبق بمكة إلا رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأبو بكر وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، أو من حبس أو فتن[6].
و قد قاسى بعض المهاجرين الأمرين فـي هذه الهجرة، ففضلا عن قصة آل أبي سلمة وما تعرضوا له
فـي ذلك، كان صهيب الرومي هو الآخر عرضة لأذى المشركين، فعندما خرج مهاجرا لحقه كفار من
قريش ليردوه، فقال لهم: هل لكم أن أعطيكم أواقي من ذهب وتخلون سبيلي وتفون لي؟ فتبعهم إلى مكة
فقال لهم: احفروا تحت أسكفة الباب فإن تحتها إلى فلانة فخذوا الحلتين وخرج حتى قدم على رسول الله
صلى الله عليه وسلم قبل أن يتحول منها يعني قباء، فلما رآه قال: يا أيا يحيى ربح البيع ثلاثا، فقال
صهيب: يا رسول الله ما سبقني إليك أحد وما أخبرك إلا جبريل عليه السلام[7]. وفـي قصة هجرة
عياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاصي مثال آخر على ذلك[8].
فـي دار الندوة
ثم إن قريشاً لما علمت بمبايعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم وخروج المهاجرين إلى المدينة و كيف
صارت للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته شيعة ومنعة خارج مكة، فضلا عما تمثله المدينة من موقع
تجاري هام[9]، حذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وعرفوا أنهم قد أجمع لحربهم،
فاجتمعوا له فـي دار الندوة، وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة[10].
و تداولوا الرأي فـي شأن الخلاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن قائل بحبسه ومن قائل بقتله
ومن قائل بنفـيه، ثم قر قرارهم فـي الأخير على قتله، وكان الذي تولى كبر هذا الجرم أبو جهل حيث
قال: (أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فـينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما
ثم يعمدوا إليه فـيضربوه ضربة رجل واحد فـيقتلوه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه فـي القبائل
جميعا فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم، قال فقال الشيخ
النجدي: القول ما قاله الرجل، هذا الرأي الذي لا رأي غيره فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له صلى
الله عليه وسلم [11]. وقد سجل القرآن الكريم هذه المؤامرة فـي قوله تعالى: ( وإذ يمكر بك الذين
كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون
و يمكر الله والله خير الماكرين )[12]. ثم إن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره
بالذي بيته المشركون، وقال له: لا تبت على فراشك الذي كنت تبيت عليه، و ترصد المشركون الرسول
صلى الله عليه وسلم ليضربوه ضربة رجل واحد كما زعموا، وأمر صلى الله عليه وسلم عليا بن أبي
طالب أن ينام على فراشه، وأعطاه برده الحضرمي الأخضر، وقال له: نم فـيه، فإنه لن يخلص إليك
شيء تكرهه منهم[13].
و لما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة جاء متقنعا إلى منزل صاحبه أبي بكر فـي وقت لم يكن
معتادا أن يأتيه فـيه، وذلك فـي عز الظهيرة وقت اشتداد الحرارة فعلم أبو بكر أن مجيء رسول الله صلى
الله عليه وسلم فـي هذه الساعة لم يكن إلا لأمر قد حدث، وأمره صلى الله عليه وسلم أن يخرج من عنده
فطمأنه أبو بكر بأنما هما ابنتاه، وأخبره صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى قد أذن له فـي الهجرة، فقال
له أبو بكر: الصحابة بأبي أنت يا رسول الله؟ فقال: نعم[14]، فبكى أبو بكر من الفرح، قالت عائشة،
فو الله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ[15]. ولما
أذن الله تعالى لنبيه بالهجرة أنزل عليه: (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل
لي من لدنك سلطانا نصيراً )[16]
: خطة الهجرة
لم تكن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر إلى المدينة أمرا عفويا ولا مرتجلا، بل
كانت نتيجة خطة محكمة استنفذ فـيها جميع الجهد البشري، واستغلت كل الإمكانيات المتاحة اللازمة
لإنجاحها، ويمكن تلخيص مراحل هذه الخطة فـيما يأتي:
1. ابتاع أبو بكر راحلتين لما رجا أن يصحب الرسول فـي هجرته واحتبسهما فـي داره يعلفهما إعداداً لذلك[17].
2. أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا بن أبي طالب بالنوم على فراشه، وأن يتخلف عنه بمكة ليؤدي الودائع إلى أهلها[18].
3. خرج صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر متقنعا فـي وقت لم يعتد أن يأتيه فـيه وذلك فـي عز الظهيرة .
4. تكتم صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر فلم يكن يعلم به إلا علي بن أبي طالب وآل أبو بكر[19].
فلما جاء منزل أبي بكر أمر بإخراج من عنده تكتما على الأمر فلما طمأنه أبو بكر، إذ ذاك أخبره صلى
الله عليه وسلم بأمر الهجرة .
5. استأجر رجلا مشركا أمينا عارفا بمسالك الصحراء يدعى عبد الله بن أريقط، وسلماه راحلتيهما،
وواعداه غار ثور بعد ثلاثة أيام .
6. خرجا ليلا إلى غار ثور، وهو فـي الجهة الجنوبية الغربية من مكة، وفـيه التمويه على الكفار، لأن
أنظارهم ستتجه للبحث عن الرسول صلى الله عليه وسلم فـي الجهة الشمالية فـي اتجاه المدينة[20] وكان
خروجهما من خوخة لأبي بكر فـي ظهر بيته[21]. و كمنا فـيه ثلاثة ليال[22] حتى يخف الطلب
عنهما .
7. أمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما أخبار القوم عنهما نهارا، ويأتيهما بها ليلا، وأمر مولاه
عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه ليلا، ثم يريحهما عليهما إذا أمسى فـي الغار ليرتويا من
ألبانها[23]ويطعما منها[24]، وليعفـي بآثارها آثار أقدام عبد الله بن أبي بكر، وكانت أسماء بنت أبي
بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما[25].
هكذا إذن اتخذ صلى الله عليه وسلم جميع الأسباب الممكنة، والاحتياطات اللازمة، وودع بلده مكة بقلب
حزين، ونفس ملؤها الحنين، وهو يقول: (والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني
أخرجت منك ما خرجت)[26]. واتجها نحو غار ثور فمكثا فـيه ثلاث ليال، فجاءهما عبد الله بن أرقيط
كما واعداه، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما فشقت نطاقها باثنين،
فعلقت السفرة بواحدة وانتطقت بالاخر[27]، وخرج بهما دليلهما صوب المدينة المنورة[28]