مضى الركب يحث الخطى من يثرب إلى مكة تحدوه الأشواق و يدفعه الحنين...
فلقد كان على موعد مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه , و كان كل من في الركب يتلهف شوقا إلى تلك اللحظة التي يسعد فيها بلقاء النبي عليه الصلاة والسلام..
ووضع يده في يده ليبايعه على السمع والطاعة...
و يعاهده على التأييد والنصر...
و كان في الركب شيخ من وحوه القوم أردف ورائه غلامه الصغير الوحيد , و خلف في يثرب تسع بنات , إذ لم يكن له صبي غيره...
ولقد كان الشيخ حريصا أشد الحرص على أن يشهد غلامه الصغير البيعه...
و ألا يفوته ذلك اليوم من أيام الله...
أما ذلك الشيخ فهو ((عبدالله بن عمرو الخزرجي الأنصاري))...
و أما غلامه فهو ((جابر بن عبدالله الأنصاري))...
أشرق الإيمان في فؤاد جابر بن عبدالله وهو صغير غض فأضاء كل جانب من جوانبه...
و مس الإسلام قلبه الصغير كما تمس قطرات الندى أكمام الزهر فَتُفَتِّحُهَا , و تُفْعِمُهَا بالشذى و العطر...
و توثقت صِلاته بالرسول صلوات الله و سلامه عليه منذ نعومة أظفاره...
و لما وفد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم على المدينة مهاجراً ؛ تتلمذ الصبي المؤمن على يدي نبي الهدى والرحمة , فكان من أنجب من أخرجتهم المدرسة المحمدية للناس حفظاً لكتاب الله...
وفِقْهاً في دين الله...
ورواية لحديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
وحسبك أن تعلم أن مسند جابر بن عبدالله يضم بين دفتيه ألفاً و خمسمائة و أربعين حديثاً...
حفظها التلميذ النجيب , ورواها للمسلمين عن نبيهم الأعظم صلى الله عليه وسلم.
و أن البخاريّ و مسلماً أثبتا في صحيحيهما ما ينوف على مائتين من أحاديثه تلك...
وأنه ظلّض نصدر إشعاع و هداية للمسلمين دهراً طويلاً ؛ فلقد مد الله في حياته حتى أوشك أن يبلغ من العمر قرناً من الزمان.
لم يشهد جابر بن عبدالله ((بدرا)) ولا ((أُحداً)) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم...
لأنه كان صغيراً من جهةٍ...
ولأن أباه كان يأمره بالبقاء مع إخوته التسع من جهة أخرى , ذلك لأنه لم يكن لهن أحدٌ سواه يقوم على أمرهن.
حَدَّث جابرٌ, قال:
لما كانت تلك الليلة التي سبقت (( أُحدا)) دعاني أبي و قال:
إني لا أراني إلا مقتولاً مع أول من يقتل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , و إني والله ما أدع أحداً أعزَّ علي منك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و إن علي دينا , فأقض ديني...
وارحم أخواتك...
واستوص بهن خيراً.
فلما أصبحنا كان أبي أول قتيلٍ قتل في ((أحد)).
فلما دفنته أتيت النبي عليه الصلاة والسلام , فقلت :
يا رسول الله إن أبي ترك ديناً عليه...
وليس عندي ما أفيه به إلا ما يخرجه ثمر نخيله , ولو عمدت إلى وفاء دينه من ذلك لما أديته في سنين...
ولا مال لأخواتي أنفق عليهن منه غير هذا.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم , و مضى معي إلى بيدر (المكان اللذي يُكوم و يجمع فيه التمر) تمرنا و قال لي :
( أدع غُرماء أبيك ), فدعوتهم.
فما زال يكيل لهم منه حتى أدى الله عن أبي دينه كله من تمر تلك السنة.
ثم نظرت إلى البيدر فوجدته كما هو...
كأنه لم تنقص منه تمرة واحدةٌ...
و منذ توفي والد جابر لم تفته غزوة واحده مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
ولقد كانت له في كل غزوة حادثة تروى و تحفظ.
فلنترك له الكلام ليروي لنا إحدى حوادثه مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه .
قال جابر :
كنا يوم ((الخندق)) نحفر , فعرضت لنا صخرة شديدة عجزنا عن تحطيمها , فجئنا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقلنا :
يا نبي الله لقد وقفت في سبيلنا صخرة صلدة , ولم تفعل معاولنا فيها شيئاً.
فقال عليه الصلاة والسلام: ( دعوها فإني نازل إليها ).
ثم قام , و كان بطنه معصوبا بحجر من شدة الجوع ؛ ذلك لأننا كنا أمضينا أياناً ثلاثة لم نذق خلالها طعاماً , فأخذ النبي عليه الصلاة والسلام المعول , وضرب الصخرة فغدت كثيباً مهيلاً.
عند ذلك إزداد أساي على ما أصاب الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم من الجوع , فاتجهت إليه وقلت :
أتأذن لي يا رسول الله بالمضي إلى بيتي ؟.
فقال : (امض) .
فلما بلغت البيت قلت لامرأتي : لقد رأيت برسول الله من مرارة الجوع ما لا يصبر عليه أحد من البشر , فهل عندكِ من شيءٍ ؟.
قالت : عندي قليل من الشعير , وشاة صغيرة , فقمت إلى الشاة فذبحتها و قطعتها , و جعلتها في القدر , و أخذت الشعير فطحنته و دفعته إلى امرأتي , فعجنته فلما وجدت أن اللحم كاد ينضج...
وأن العجين قد لان , و أوشك أن يختمر .
مضيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , و قلت له :
قليل من الطعام صنعناه لك يا نبي الله ؛ فقم أنت ورجل أو رجلان معك .
فقال : ( كم هو ) ؟ .
فوصفته له...
فلما علم النبي عليه الصلاة والسلام بمقدار الطعام قال :
( يا أهل الخندق إن جابراً قد صنع لكم طعاماً فهلموا إليه ) ...
ثم التفت إلي وقال : ( امض إلى زوجتك وقل لها :
لا تُنْزِلِي قِدرك , ولا تخبزي عجينك حتى أجيء ) .
فمضيت إلى البيت ؛ وقد ركبني من الهم والحياء ما لا يعلمه إلا الله.
وجعلت أقول : أيجيئنا أهل الخندق على صاع من شعير ...
و شاةٍ صغيرة ؟! .
ثم دخلت على امرأتي و قلت : ويحكِ , لقد افتضحت...
فرسول الله صلى الله عليه وسلم سيأتينا بأهل الخندق أجمعين.
فقالت : هل سألك : كم طعامك؟ .
قلت : نعم.
فقالت : سَرِّ عن نفسك , فالله ورسوله أعلم , فكشفت عني غمًّا شديداً بمقالتها تلك.
وماهو إلا قليل حتى أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم...
ومعه الأنصار والمهاجرون , فقال لهم :
( ادخلوا , ولا تزدحموا ).
ثم قال لامرأتي : ( هاتِ خابزة فلتخبز معك ...
واغرفي من قدرك ...
ولا تنزليها عن الموقد )
ثم طفق يكسر الخبز , ويجعل عليه اللحم , و يقربه إلى أصحابه ...
و هم يأكلون . حتى شبعوا جميعا .
ثم أردف جابر قائلاً :
أقسم بالله إنهم انفضوا عن الطعام و إن قدرنا لتفورُ ممتلئة كما هي ...
وإن عجيننا ليخبز كما هو ...
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لامرأتي :
( كلي ...
واهدي ) ...
فأكلت , وجعلت تهدي طوال ذلك اليوم كله .
هذا ولقد ظلَّ جابر بن عبدالله الأنصاري مصدر إشعاع وهداية للمسلمين دهراً طويلاً , حيث مد الله في أجله حتى أوشك أن يبلغ من العمر قرنا من الزمان .
ولقد خرج ذات سنة إلى بلاد الروم غازياً قي سبيل الله .
وكان الجيش بقيادة مالك بن عبدالله الخثعمي .
وكان مالك يطوف بجنوده وهم منطلقون ليقف على أحوالهم , ويشد من أزرهم , و يولي كبارهم ما يستحقونه من عناية و رعاية .
فم بجابر بن عبدالله , فوجده ماشياً ...
ومعه بغل له يمسك بزمامه , ويقوده .
فقال له : ما بك يا أبا عبد الله ؟ ...
لم لا تركب ؟ّ , وقد يسر الله لك ظهراً يحملك عليه .
فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرَّمه الله على النار ) .
فتركه مالك و مضى حتى غدا في مقدمة الجيش .
ثم التفت إليه وناداه بأعلى صوته , وقال : يا أبا عبد الله , مالك لا تركب بغلك , وهو في حوزتك ؟! .
فعرع جابر قصده , و أجابه بصوت عال وقال :
لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من اغبرَّت قدماه في سبيل الله حرَّمه الله على النار ).
فتواثب الناس عن دوابهم ...
و كل منهم يريد أن يفوز بهذا الأجر .
فما رُئِيَ جيش أكثر مشاةً من ذلك الجيش .
هنيئاً لجابر بن عبدالله الأنصاري :
فقد بايع الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وهو طفيل لم يبلغ الحلم ...
وتتلمذ على يديه منذ نعومة أظفاره ...
وروى حديثه فتناقلته عنه الرواة ...
زجاهد مع رسول الله على الصلاة والسلام وهو شاب موفور الشباب ...
وغبَّر قدميه في سبيل الله وهو شيخ طاعن في السن.