ثمامة ملك اليمامة
في السنة السادسة للهجرة عزم الرسول صلوات الله عليه على أن يوسع نطاق دعوته إلى الله ، فكتب ثمانية كتب إلى ملوك العرب والعجم ، وبعث بها إليهم يدعوهم فيها إلى الاسلام .. وكان في جملة من كاتبهم ثمامة بن أثال الحنفي.
تلقى ثمامة رسالة النبي عليه الصلاة و السلام بالازدراء والإعراض .. وأخذته العزة بالإثم ، فأصم أذنيه عن سماع دعوة الحق و الخير ، ثم أنه ركبه الشيطان فأغراه بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووأد دعوته ، فدأب يتحين الفرص للقضاء على النبي صلى الله عليه وسلم حتى أصاب منه غرة ، و كادت تتم الجريمة الشنعاء لولا أن أحد أعمام ثمامة ثناه عن عزمه في آخر لحظة ، فنجى الله نبيه من شره .
لكن ثمامة إذا كان قد كف عن رسول الله صلوات الله عليه ؛ فإنه لم يكف عن أصحابه ، حيث جعل يتربص بهم ، حتى ظفر بعدد منهم وقتلهم شر قتلة ، فأهدر النبى عليه الصلات والسلام دمه ، وأعلن ذّلك في أصحابه .
لم يمض على ذّلك طويل وقت حتى عزم ثمامة ابن أثال على أداء العمرة ، فانطلق من أرض اليمامة موليا وجهه شطر مكة ، وهو يمني نفسه بالطواف حول الكعبة والذبح لأصنامها . وبينما كان ثمامة في بعض طريقه قريبا من المدينة نزلت به نازلة لم تقع له بحسبان ، وذلك أن سرية من سرايا رسول الله صلوات الله عليه ، كانت تجوس خلال الديار خوفا من أن يطرق المدينة طارق ، أو يريدها معتد بشر .. فأسرت السرية ثمامة - وهي لا تعرفه - وأتت به إلى المدينة ، وشدته إلى سارية من سواري المسجد ، منتظرة النبي الكريم أن يقف بنفسه على شأن الاسير ، وأن يأمر فيه بأمره .. ولما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ، وهم بالدخول فيه رأى ثمامة مربوطا في السارية ، فقال لأصحابه : أتدرون من أخذتم ؟
فقالوا : لا يارسول الله.
فقال : هذا ثمامة بن أثال الحنفي ، فأحسنوا أساره ، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهله وقال: اجمعوا ما كان عندكم من طعام وابعثوا به إلى ثمامة بن أثال ، ثم أمر بناقته أن تحلب له في الغدو والرواح وأن يقدم إليه لبنها ، وقد تم ذلك كله قبل أن يلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم او يكلمه .
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على ثمامة يريد أن يستدرجه إلى الإسلام وقال : ما عندك يا ثمامة ؟
فقال : عندي يا محمد خير ... فإن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال ، فسل تعط منه ما شئت .. فتركه الرسول صلى الله عليه وسلم يومين على حاله ، يؤتى له بالطعام والشراب ، ويحمل إليه لبن الناقة ثم جاءه ، فقال : ما عندك يا ثمامة؟
قال : ليس عندي إلا ما قلت لك من قبل، فإن تعم تنعم على شاكر وإن تقتل تقتل ذا دم ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما تشاء، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال: أطلقوا ثمامة ، ففكوا وثاقه وأطلقوه.
غادر ثمامة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومضى حتى إذا بلغ نخلا من حواشي المدينة فيه ماء أناخ راحلته عنده ، وتطهر من مائه فأحسن طهوره ، ثم عاد أدراجه إلى المسجد ، فما إن بلغ حتى وقف على ملأ من المسلمين وقال : أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ثم اتجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : يا محمد .. والله ما كان على ظهر الأرض وجه أبغض إلي من وجهك .... و قد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي ، ووالله ماكان دين أبغض إلي من دينك ؛ فأصبح دينك أحب الدين كله إلي .. ووالله ما كان بلد أبغض إلي من بلدك ، فأصبح أحب البلاد كلها إلي .. ثم أردف قائلا :
لقد كنت أصبت في أصحابك دما فما الذي توجبه علي ؟
فقال صلى الله عليه وسلم : لا تثريب عليك يا ثمامة ... فإن الإسلام يجب ما قبله ... و بشره بالخير الذي كتبه الله له بإسلامه، فانبسطت أسارير ثمامة وقال :
والله لأصيبن من المشركين أضعاف ما أصبت من أصحابك ، و لأضعن نفسي و سيفي ومن معي في نصرتك ونصرة دينك .. ثم قال : يا رسول الله إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى أن أفعل ؟
فقال صلى الله عليه وسلم : امض لأداء عمرتك و لكن على شرعة الله و رسوله ، وعلمه ما يقوم به من المناسك .
مضى ثمامة إلى غايته حتى إذا بلغ بطن مكة وقف يجلجل بصوته العالي قائلا : لبيك اللهم لبيك ... لبيك لا شريك لك لبيك .... إن الحمد و النعمة لك و الملك ... لا شريك لك ..
فكان ثمامة أول مسلم على ظهر الأرض دخل مكة ملبيا .. وسمعت قريش صوت التلبية فهبت مغضبة مذعورة ، و استلت السيوف من أغمادها ، و اتجهت نحو الصوت لتبطش بهذا الذي اقتحم عليها عرينها . ولما أقبل القوم على ثمامة رفع صوته بالتلبية ، وهو ينظر إليهم بكبرياء ، فهم فتى من فتيان قريش أن يرديه بسهم ، فأخذوا على يديه وقالوا : ويحك أتعلم من هذا ؟ إنه ثمامة بن أثال ملك اليمامة ... و الله إن أصبتموه بسوء قطع قومه عنا الميرة وأماتونا جوعا ، ثم أقبل القوم على ثمامة بعد أن أعادوا السيوف إللى أغمادها وقالوا : ما بك يا ثمامة؟!! أصبوت وتركت دينك و دين آباك ؟!!
قال : ما صبوت ولكني تبعت خير دين ... اتبعت دين محمد .. ثم أردف يقول : أقسم برب هذا البيت ، إنه لا يصل إليكم بعد عودتي إلى اليمامة حبة من قمحها أو شيء من خيراتها حتى تتبع دين محمدا عن آخركم ..
اعتمر ثمامة بن أثال على مرأى من قريش كما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعتمر ، وذبح تقربا لله .. لا للأنصار و الأصنام، ومضى إلى بلاده فأمر قومه أن يحبسوا الميرة عن قريش ، فصدعوا بأمره و استجابوا له ، و حبسوا خيراتهم عن أهل مكة .
أخذ الحصار الذي فرضه ثمامة على قريش يشتد شيئا فشيا ، فارتفعت الأسعار ، وفشى الجوع في الناس واشتد عليهم الكرب ، حتى خافوا على أنفسهم و أبنائهم من أن يهلكوا جوعا .. عند ذلك كتبوا إلى رسول صلى الله عليه وسلم يقولون : إن عهدنا بك أنك تصل الرحمن وتحض على ذلك ... وها أنت قد قطعت أرحامنا ، فقتلت الآباء بالسيف ، و أمت الأبناء بالجوع .. و إن ثمامة بن أثال قد قطع عنا ميرتنا و أضر بنا ، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يبعث الينا بما نحتاج إليه فافعل ، فكتب صلى الله عليه وسلم إلى ثمامة بأن يطلق لهم ميرتهم فأطلقها .
ظل ثمامة بن أثال - ما امتدت به الحياة وفيا لدينه ، حافظا لعهد نبيه ، فلما التحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى ، و طفق العرب يخرجون من دين الله زرافات ووحدانا ، و قام مسيلمة الكذاب في بني حنيفة يدعوهم إلى الإيمان به ، وقف ثمامة في وجهه ، وقال لقومه : يا بني حنيفة إياكم وهذا الأمر المظلم الذي لا نور فيه ، إنه والله لشقاء كتبه الله عز وجل على من أخذ به منكم ، وبلاء على من لم يأخذ به ، ثم قال :
يا بني حنيفة إنه لا يجتمع نبيان في وقت واحد ، وإن محمدا رسول الله لا نبي بعده ، ولا نبي يشرك معه .. ثم قرأ عليهم :
(حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير) .. ثم قال : أين كلام الله هذا من قول مسيلمة : (يا ضفدع نقي ما تنقين ، لا الشراب تمنعين ولا الماء تكدرين) ثم انحاز بمن بقي على الإسلام من قومه ومضى يقاتل المرتدين جهادا في سبيل الله وإعلاء لكلمته في الأرض ..
جزى الله ثمامة بن أثال عن الإسلام والمسلمين خيراً ، واكرمه بالجنة التي وعد المتقون.