الجيش الإسلامي ينزل بمَرِّ الظَّهْرَان
وواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى بلغ الكُدَيْد ـ وهو ماء
بين عُسْفَان وقُدَيْد ـ فأفطر، وأفطر الناس معه. ثم واصل سيره حتى نزل بمر الظهران ـ وادي فاطمة ـ
نزله عشاء، فأمر الجيش، فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أبو سفيان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وركب العباس ـ بعد نزول المسلمين بمر الظهران ـ بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء،
وخرج يلتمس، لعله يجد بعض الحَطَّابة أو أحداً يخبر قريشاً ليخرجوا يستأمنون رسول الله صلى الله
عليه وسلم قبل أن يدخلها.
وكان الله قد عمي الأخبار عن قريش، فهم على وَجَلٍ وترقب، وكان أبو سفيان يخرج يتجسس الأخبار،
فكان قد خرج هو وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار.
قال العباس: والله إني لأسير عليها ـ أي على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ إذ سمعت كلام
أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا
عسكراً. قال: يقول بديل: هذه والله خزاعة، حَمَشَتْها الحرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من
أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
قال العباس: فعرفت صوته، فقلت: أبا حَنْظَلَة؟ فعرف صوتي، فقال: أبا الفضل؟ قلت: نعم. قال:
مالك؟ فداك أبي وأمي. قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله.
قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟، قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة،
حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، فركب خلفي، ورجع صاحباه.
قال: فجئت به، فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين، قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته. حتى مررت بنار
عمر بن الخطاب فقال: من هذا؟ وقام إلى، فلما رأي أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان، عدو
الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وركضتُ البغلة فسبقت، فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه
عمر، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه، قال: قلت: يا رسول الله، إني قد
أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه الليلة أحد
دوني، فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلاً يا عمر، فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت
مثل هذا، قال: مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك كان أحب إلى من إسلام الخطاب، لو أسلم، وما بي إلا
أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به)، فذهبت،
فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: (ويحك يا أبا سفيان، ألم
يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟) قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟ لقد ظننت أن
لو كان مع الله إله غيره لقد أغني عني شيئاً بعد.
قال: (ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟)، قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك
وأكرمك وأوصلك: أما هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيء. فقال له العباس: ويحك أسلم، واشهد
أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، قبل أن تضرب عنقك، فأسلم وشهد شهادة الحق.
قال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً. قال: (نعم، من دخل دار
أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن).