الكتاب إلى قيصر ملك الروم:
روى البخاري ـ ضمن حديث طويل ـ نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك الروم
هرقل، وهو هذا:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدي،
أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى
كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}) [آل عمران:64].
واختار لحمل هذا الكتاب دَحْيَة بن خليفة الكلبي، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصري، ليدفعه إلى قيصر،
وقد روي البخاري عن ابن عباس أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من
قريش، كانوا تجاراً بالشام، في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادَّ فيها أبا سفيان وكفار
قريش، فأتوه وهم بإيلياء ، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا ترجمانه فقال: أيكم
أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً، فقال: أدنوه مني،
وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني
فكذبوه، فو الله لولا الحياء من أن يأثروا على كذباً لكذبت عليه.
ثم قال: أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ فقلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول
منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس اتبعوه أم
ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم
سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه: قلت: لا. قال: فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا.
قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها ـ قال: ولم تمكنني كلمة أدخل
فيها شيئاً غير هذه الكلمة ـ قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب
بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: (اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا
به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم)، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب من
قومها. وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فذكرت أن لا. قلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله
لقلت: رجل يأتسي بقول قيل قبله. وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا. فقلت: فلو كان
من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله. وسألتك: أشراف الناس
اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟
فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتد أحد سخطه لدينه بعد أن يدخل فيه؟
فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك
الرسل لا تغدر.وسألتك: بماذا يأمر؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً وينهاكم عن
عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين،
وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت
عنده لغسلت عن قدميه.
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ، فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده
وكثر اللغط، وأمر بنا فأخرجنا، قال: فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمِرَ أمْرُ ابن أبي كَبْشَة، إنه
ليخافه ملك بني الأصفر ، فما زلت موقنا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر حتى أدخل الله على الإسلام.
هذا ما رآه أبو سفيان من أثر هذا الكتاب على قيصر، وقد كان من أثره عليه أنه أجاز دحية بن خليفة
الكلبي، حامل كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم بمال وكسوة، ولما كان دحية بحِسْمَي في الطريق لقيه
ناس من جُذَام، فقطعوها عليه، فلم يتركوا معه شيئاً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل
بيته، فأخبره، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى حسمي، وهي وراء وادي
القري، في خمسمائة رجل، فشن زيد الغارة على جذام، فقتل فيهم قتلاً ذريعاً، واستاق نَعَمهم ونساءهم،
فأخذ من النعم ألف بعير، ومن الشاء خمسة آلاف، والسبي مائة من النساء والصبيان.
وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قبيلة جذام موادعة، فأسرع زيد بن رِفَاعة الجذامي أحد
زعماء هذه القبيلة بتقديم الاحتجاج إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أسلم هو ورجال من قومه،
ونصروا دحية حين قطع عليه الطريق فقبل النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه، وأمر برد الغنائم والسبي.
وعامة أهل المغازي يذكرون هذه السرية قبل الحديبية، وهو خطأ واضح، فإن بعث الكتـاب إلى قيـصر
كـان بعد الحديبية ؛ ولذا قال ابن القيم: هذا بعد الحديبية بلا شك.