إبرام الصلح وبنوده
وعرفت قريش ضيق الموقف، فأسرعت إلى بعث سُهَيْل بن عمرو لعقد الصلح، وأكدت له ألا يكون في
الصلح إلا أن يرجع عنا عامه هذا، لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً، فأتاه سهيل بن
عمرو، فلما رآه \ قال: (قد سهل لكم أمركم)، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فجاء سهيل
فتكلم طويلاً، ثم اتفقا على قواعد الصلح، وهي هذه:
1. الرسول صلى الله عليه وسلم يرجع من عامه، فلا يدخل مكة، وإذا كان العام القابل دخلها المسلمون
فأقاموا بها ثلاثاً، معهم سلاح الراكب، السيوف في القُرُب، ولا يتعرض لهم بأي نوع من أنواع
التعرض.
2. وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض.
3. من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل
فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من
هذه القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق.
4. من أتي محمداً من قريش من غير إذن وليه ـ أي هارباً منهم ـ رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع
محمد ـ أي هارباً منه ـ لم يرد عليه.
ثم دعا علياً ليكتب الكتاب، فأملي عليه: (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال سهيل: أما الرحمن فوالله لا
ندري ما هو؟ ولكن اكتب: باسمك اللّهم. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. ثم أملي: (هذا ما
صالح عليه محمد رسول الله) فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك،
ولكن اكتب: محمد بن عبد الله فقال: (إني رسول الله وإن كذبتموني)، وأمر علياً أن يكتب: محمد بن
عبد الله، ويمحو لفظ رسول الله، فأبي على أن يمحو هذا اللفظ. فمحاه صلى الله عليه وسلم بيده، ثم تمت
كتابة الصحيفة، ولما تم الصلح دخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وكانوا حليف
بني هاشم منذ عهد عبد المطلب، كما قدمنا في أوائل الكتاب، فكان دخولهم في هذا العهد تأكيداً لذلك
الحلف القديم ـ ودخلت بنو بكر في عهد قريش.
رد أبي جندل
وبينما الكتاب يكتب إذ جاء أبو جَنْدَل بن سهيل يَرْسُفُ في قيوده، قد خرج من أسفل مكة حتى رمي
بنفسه بين ظهور المسلمين، فقال سهيل: هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: (إنا لم نقض الكتاب بعد).
فقال: فوالله إذا لا أقاضيك على شيء أبداً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأجزه لي). قال: ما أنا
بمجيزه لك. قال: (بلى فافعل)، قال: ما أنا بفاعل. وقد ضرب سهيل أبا جندل في وجهه، وأخذ
بتلابيبه وجره ؛ ليرده إلى المشركين، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أأرد
إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا جندل، اصبر واحتسب،
فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً،
وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد الله فلا نغدر بهم).
فوثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما
هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، ويدني قائم السيف منه، يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف
فيضرب به أباه، فضن الرجل بأبيه، ونفذت القضية.