جيش مكة يتحرك
تحرك الجيش المكي بعد هذا الإعداد التام نحو المدينة، وكانت التارات القديمة والغيظ الكامن يشعل
البغضاء في القلوب، ويشف عما سوف يقع من قتال مرير. الاستخبارات النبوية تكشف
حركة العدو
وكان العباس بن عبد المطلب يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية، فلما تحرك هذا الجيش بعث
العباس رسالة مستعجلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضمنها جميع تفاصيل الجيش.
وأسرع رسول العباس بإبلاغ الرسالة، وجد في السير حتى إنه قطع الطريق بين مكة والمدينة ـ التي تبلغ
مسافتها إلى نحو خمسمائة كيلو متر ـ في ثلاثة أيام، وسلم الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو
في مسجد قباء.
قرأ الرسالة على النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب، فأمره بالكتمان، وعاد مسرعاً إلى المدينة،
وتبادل الرأي مع قادة المهاجرين والأنصار.
استعداد المسلمين للطوارئ
وظلت المدينة في حالة استنفار عام لا يفارق رجالها السلاح حتى وهم في الصلاة، استعداداً للطوارئ.
وقامت مفرزة من الأنصار ـ فيهم سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة ـ بحراسة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فكانوا يبيتون على بابه وعليهم السلاح. وقامت على مداخل المدينة وأنقابها
مفرزات تحرسها ؛ خوفا من أن يؤخذوا على غرة.
وقامت دوريات من المسلمين ـ لاكتشاف تحركات العدو ـ تتجول حول الطرق التي يحتمل أن يسلكها
المشركون للإغارة على المسلمين.
الجيش المكي إلى أسوار المدينة
وتابع جيش مكة سيره على الطريق الغربية الرئيسية المعتادة، ولما وصل إلى الأبْوَاء اقترحت هند بنت
عتبة ـ زوج أبي سفيان ـ بنبش قبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بَيدَ أن قادة الجيش رفضوا هذا
الطلب،وحذروا من العواقب الوخيمة التي تلحقهم لو فتحو هذا الباب.
ثم واصل جيش مكة سيره حتى اقترب من المدينة، فسلك وادي العَقيق، ثم انحرف منه إلى ذات اليمين
حتى نزل قريباً بجبل أحد، في مكان يقال له: عَينَيْن، في بطن السَّبْخَة من قناة على شفير الوادي ـ الذي
يقع شمإلى المدينة بجنب أحـد، فعسكر هناك يوم الجمعة السادس من شهر شوال سنة ثلاث من الهجرة.
المجلس الاستشاري لأخذ خطة الدفاع
ونقلت استخبارات المدينة أخبار جيش مكة خبراً بعد خبر حتى الخبر الأخير عن معسكره، وحينئذ عقد
رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً استشارياً عسكرياً أعلى ، تبادل فيه الرأي لاختيار الموقف،
وأخبرهم عن رؤيا رآها، قال: (إني قد رأيت والله خيراً، رأيت بقراً يذبح، ورأيت في ذُبَاب سيفي ثُلْماً،
ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة)، وتأوّل البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الثلمة في سيفه
برجل يصاب من أهل بيته، وتأول الدرع بالمدينة.
ثم قدم رأيه إلى صحابته ألا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها،فإن أقام المشركون بمعسكرهم أقاموا
بِشَرِّ مُقَام وبغير جدوي، وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت،
وكان هذا هو الرأي. ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي بن سلول ـ رأس المنافقين ـ وكان قد حضر
المجلس بصفته أحد زعماء الخزرج. ويبدو أن موافقته لهذا الرأي لم تكن لأجل أن هذا هو الموقف
الصحيح من حيث الوجهة العسكرية، بل ليتمكن من التباعد عن القتال دون أن يعلم بذلك أحد، وشاء الله
أن يفتضح هو وأصحابه ـ لأول مرة ـ أمام المسلمين وينكشف عنهم الغطاء الذي كان كفرهم ونفاقهم
يكمن وراءه، ويتعرف المسلمون في أحرج ساعاتهم على تلك الأفاعي التي كانت تتحرك تحت ملابسهم وأكمامهم.
فقد بادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر ومن غيرهم، فأشاروا على النبي صلى
الله عليه وسلم بالخروج، وألحوا عليه في ذلك حتى قال قائلهم: يا رسول الله،كنا نتمني هذا اليوم وندعو
الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير، اخرج إلى أعدائنا، لا يرون أنا جَبُنَّا عنهم.
وكان في مقدمة هؤلاء المتحمسين حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ الذي كان
قد أبلي أحسن بلاء في معركة بدر ـ فقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم : والذي أنزل عليك الكتاب لا
أطعم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة .
وتنازل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه مراعاة لهؤلاء المتحمسين، واستقر الرأي على الخروج
من المدينة، واللقاء في الميدان السافر.
تكتيب الجيش الإسلامي وخروجه إلى ساحة القتال
ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس يوم الجمعة، فوعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبر أن لهم
النصر بما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح الناس بذلك. ثم صلى بالناس العصر، وقد حشدوا
وحضر أهل العَوَإلى ، ثم دخل بيته، ومعه صاحباه أبو بكر وعمر، فعمماه وألبساه، فتدجج بسلاحه
وظاهر بين درعين [أي لبس درعا فوق درع] وتقلد السيف، ثم خرج على الناس.
وكان الناس ينتظرون خروجه، وقد قال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله صلى
الله عليه وسلم على الخروج فردوا الأمر إليه،فندموا جميعاً على ما صنعوا، فلما خرج قالوا له: يا رسول
الله،ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل. فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأْمَتَه ـ وهي الدرع ـ أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه