بنو قَينُقَاع ينقضون العهد
لكنهم لما رأوا أن الله قد نصر المؤمنين نصراً مؤزراً في ميدان بدر، وأنهم قد صارت لهم عزة وشوكة
وهيبة في قلوب القاصي والداني. تميزت قدر غيظهم، وكاشفوا بالشر والعداوة، وجاهروا بالبغي والأذي.
وكان أعظمهم حقداً وأكبرهم شراً كعب بن الأشرف ـ وسيأتي ذكره ـ كما أن شر طائفة من طوائفهم
الثلاث هم يهود بني قينقاع، كانوا يسكنون داخل المدينة ـ في حي باسمهم ـ وكانوا صاغة وحدادين
وصناع الظروف والأواني، ولأجل هذه الحرف كانت قد توفرت لكل رجل منهم آلات الحرب، وكان عدد
المقاتلين فيهم سبعمائة، وكانوا أشجع يهود المدينة، وكانوا أول من نكث العهد والميثاق من اليهود.
فلما فتح الله للمسلمين في بدر اشتد طغيانهم، وتوسعوا في تحرشاتهم واستفزازاتهم، فكانوا يثيرون الشغب،
ويتعرضون بالسخرية، ويواجهون بالأذي كل من ورد سوقهم من المسلمين حتى أخذوا يتعرضون بنسائهم.
وعندما تفاقم أمرهم واشتد بغيهم، جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعظهم ودعاهم إلى الرشد
والهدي، وحـذرهم مغـبة البغـي والـعدوان، ولكنهم ازدادوا في شرهم وغطرستهم.
روي أبو داود وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
قريشاً يوم بدر، وقدم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع. فقال: (يا معشر يهود، أسلموا قبل أن
يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً). قالوا:يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا
أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله تعالى: {قُل
لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ
اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران 12، 13].
كان في معني ما أجاب به بنو قينقاع هو الإعلان السافر عن الحرب، ولكن كظم النبي صلى الله عليه
وسلم غيظه، وصبر المسلمون، وأخذوا ينتظرون ما تتمخض عنه الليإلى والأيام.
وازداد اليهود ـ من بني قينقاع ـ جراءة، فقلما لبثوا أن أثاروا في المدينة قلقاً واضطراباً، وسعوا إلى
حتفهم بظلفهم، وسدوا على أنفسهم أبواب الحياة.
روي ابن هشام عن أبي عون: أن امرأة من العرب قدمت بجَلَبٍ لها، فباعته في سوق بني قينقاع،
وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فَعَمَد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى
ظهرها ـ وهي غافلة ـ فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على
الصائغ فقتله ـ وكان يهودياً ـ فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على
اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.