بعد سرية عبد اللله بن جحش
تلكم السرايا والغزوات قبل بدر، لم يجر في احد منها سلب الأموال وقتل الرجال إلا
بعد ما ارتكبه المشركون في قيادة كرز
بن جابر الفهري، فالبداية إنما هي من المشركين
مع ما كانوا قد أتوه قبل ذلك من الأفاعيل.
وبعد وقوع ما وقع في سرية عبد
الله بن جحش تحقق خوف المشركين وتجسد أمامهم الخطر الحقيقي، ووقعوا فيما كانوا
يخشون الوقوع فيه، وعلموا أن المدينة في غاية من التيقظ والتربص، تترقب كل حركة من
حركاتهم التجارية، وأن المسلمين
يستطيعون أن يزحفوا إلى ثلاثمائة ميل تقريباً، ثم
يقلتوا ويأسروا رجالهم، ويأخذوا أموالهم، ويرجعوا سالمين غانمين، وشعر
هؤلاء
المشركون بأن تجارتهم إلى الشام أمام خطر دائم، لكنهم بدل أن يفيقوا عن غيهم،
ويأخذوا طريق الصلاح والموادعة
- كما فعلت جهينة وبنو ضمرة ازدادوا حقداً وعيظاً،
وصمم صناديدهم وكبراؤهم على ما كانوا يوعدون ويهددون به من
قبل: من إبادة
المسلمين في عقر دارهم، وهذا هو الطيش الذي جاء بهم إلى بدر.
أما
المسلمون فقد فرض الله عليهم القتال بعد وقعة سرية عبد الله بن جحش في شهر شعبان
سنة 2 هـ، وأنزل في ذلك آيات
بينات: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ
أَخْرَجُوكُمْ
وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ
كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ
فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ
انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:190:
193].
ثم لم يلبث أن أنزل الله تعالى عليهم آيات من نوع آخر، يعلمهم
فيها طريقة القتال، ويحثهم عليه، ويبين لهم بعض أحكامه:
{فَإِذا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا
الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ
أَوْزَارَهَا
ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ
بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَن يُضِلَّ
أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ
وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ
عَرَّفَهَا لَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [محمد: 4: 7].
ثم ذم الله الذين
طفقت أفئدتهم ترجف وتخفق حين سمعوا الأمر بالقتال: {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ
مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ
يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد:
20].
وإيجاب القتال والحض عليه، والأمر بالاستعداد له هو عين ما كانت
تقتضيه الأحوال، ولو كان هناك قائد يسبر أغوار
الظروف لأمر جنده بالاستعداد لجميع
الطورائ، فكيف بالرب العليم المتعال، فالظروف كانت تقتضى عراكاً دامياً بين الحق
والباطل، وكانت وقعة سرية عبد الله بن جحش ضربة قاسية على غيرة المشركين وحميتهم،
آلمتهم وتركتهم يتقلبون على مثل الجمر.
وآيات الأمر بالقتال تدل بفحواها
على قرب العراك الدامي، وأن النصر والغلبة فيه للمسلمين نهائيا، انظر كيف يأمر الله
المسلمين بإخراج المشركين من حيث أخرجوهم، وكيف يعلمهم أحكام الجند المتغلب في
الأساري والإثخان في الأرض حتى
تضع الحرب أوزارها، هذه كلها إشارة إلى غلبة
المسلمين نهائياً. ولكن ترك كل ذلك مستوراً حتى يأتي كل رجل بما فيه من التحمس في
سبيل الله.
وفي هذه الأيام - في شعبان سنة 2 هـ / فبراير 624م - أمر الله
تعالى بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام،
وأفاد ذلك أن الضعفاء
والمنافقين من اليهود الذين كانوا قد خلوا صفوف المسلمين لإثارة البلبلة، انكشفوا
عن المسلمين
ورجعوا إلى ما كانوا عليه، وهكذا تطهرت صفوف المسلمين عن كثير من أهل
الغدر والخيانة.
ولعل في تحويل القبلة إشارة لطيفة إلى بداية دور جديد لا
ينتهي إلى بعد احتلال المسلمين هذه القبلة، أو ليس من العجب أن
تكون قبلة قوم بيد
أعدائهم، وإن كانت بأيديهم فعلا فلابد من تخليصها يوما ما إن كانوا على الحق.
وبهده الأوامر والإشارات زاد نشاط المسلمين، واشتد شوقهم إلى الجهاد في
سبيل الله، ولقاء العدو في معركة فاصلة لإعلاء كلمة الله.