ارتضع رمال البيد العطاش، وانهل من ثرى الصحارى الغارقة في الجدب والظلام، ولا تفلت حبل الثريا من يدك من يأس، فإنك إن تفعل، فقد أدنيت نفسك من مصرع الرجاءِ الآفل، واحتطب لحنيذك من أطراف الشمس، وامضغ الصَّبر بشوكه، ولا تعدل عن روائع الموت الآزفة بالنقيع، وأرِشْ سهمك لتفَوِّقه إلى حلوق الخطوب إن رامتك بضراءَ بيد الظلم الشَّثنة، ومدَّ بصرك إلى الآفاق الراعشة بذوامر القنوط فأبطل كيدها أن تُصيب به نفوس البائسين المستضعفين.
(7)
أي بُني:
انظر بني، ما أحسن أن يعرف المرءُ قدر نفسه، فلا يعدوه، فإنه إن عرف قدره عزَّ عليه أن يشتار العسل إلا من قمم الشامخات الراسيات، وأن يشرب الماءَ إلا من المزن المعصرات العاليات، واعلم رعاك الله أن أهنأ الحب ما تزول به ضرَّاءُ القلوب، وتتقطع به أوكيةُ الشر التي أحكمتها يد البغضاء والحسد، وسوءِ الظن، والتشحُّط في الأعراض، والكبر السخيف، واختلاس المعروف.
(8)
أي بُني:
اطلب الحلال من الزَّاد على قلَّةٍ، ولا تَمِلْ بعينك إلى الحرام على كثرةٍ، وإيَّاك أن يكون لنفسك عليك سلطان في شبهةٍ ولو على مسغبةٍ، وألقِ بجسدك طعاماً سائغاً شهياً للسباع بصون العرض، ونقاءِ السريرة، والنُّصح للناس كلِّهم وللعشيرة، وأمسك عليك حتى قلامة الظفر أن تُنالَ بهوانٍ من ذا وذاك.
اعلم؛ أن أرفع الناس قدراً من يحفظ عليك ودَّكَ بوفاءِ حقٍّ لمعروفٍ أصابه منك، وأنزلَ الناس قدراً من يضيع ودَّك باجتراحك معه خطأً. لا يذكر إلى جانب معروف، يعمرُ أرضاً شاسعة من البور، فاقدر لكلٍّ قدره، وأبْصر بمآلات الذين أصابتهم مودَّة الشيطان بحمَّاها اللاَّهبة، وكن من نفسك على محاذرةٍ من أن تجنح بك إلى سبيل لا تعرفها، فتضل وتشقى، وأسلم قيادك في طمأنينة إلى قلبك، فإنه يهديك إلى سواءِ القصد، ولا يفتَرَّ ثغركَ عن ابتسامةٍ إلا وهي سالبةٌ من صدركَ بغضاً، أو جالبةٌ لك حبّاً، والغبْ في صواب الحقِّ، ولا تستهويك سهولة الباطل، فتُكَبَّ على وجهك وأنت تمشي سوياً، ولا تخف شيئاً إلا إن يكون فيه معصيةٌ ÷ تفرح لها، أو طاعة ÷ تخشى فواتها.
(10)
أي بُني:
لا يُحْزِنُكَ أن يفوتك شيءٌ تحسبه نافعاً، ولا يُفْرحك أن يفوتك شيءٌ تحسبه ضاراً، إذ لستَ تدري أين النفع أو أين الضرُّ في أحدهما، والله سبحانه يقول: {عَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ والله يعلم وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} واستَبْقِ النافع بالتضرع إلى الله أن يقيمك على شكره، وادَّرِأ الضارَّ بالرضا بقضاءِ الله فيك، واعلم أن ما أصابك ما كان ليخطئِك، وما أخطأك ما كان ليصيبك، والله يقدِّر الأشياءَ كلَّها بحكمته وإرادته، والخير كلُّه في التسليم بما أراد الله ، ولا تستعجل ما أخَّره الله ، ولا تستبطئْ ما أعجله الله ، وارضَ بما قدَّره الله ، وتوكَّل على الحيِّ الذي لا يموت. وسبِّح بالعشيِّ والإِبكار، واعلم أن ما يكون من ظلام في الليل يعقبه ضوءٌ في النَّهار.
(